نداوة قلب
سلوى عباس
في لحظة.. تكثف الزمن، وضاق الوقت، واتسع المكان لأزقة وحارات لم تعهدها من قبل.. تدخل حارة لتخرج منها إلى زقاق آخر دون إدراك للاتجاهات، فالمدينة تغيرت ملامحها التي نقشت في ذاكرتها، ومساحة العمران أصبحت أوسع.
مشت في الطريق لا تلوي إلا على ذاكرة تعود إلى أكثر من نصف قرن من الزمن، راحت تستحضر فيها أياماً مضت.. تستحضر ذكرياتها التي عاشتها في مدينة لم تعد ملامحها تشبهها.. وفجأة… تعثرت خطاها، وضاق صدرها عن الهواء، وبعثرتها الحالة كقشة اقتلعت عن سنبلة على حين هبوب.. جلست وحيدة وسط انشغالات الكون بترتيب أوراق الزمن بعيداً عن وقتها.. هواء يهب في الأنحاء، فتلجأ إلى طاولة في ذلك المقهى.. هواء رطب، وشمس تميل للانطفاء في وحشة المكان، وتوحد روحها يرسم إحساسها خطوطاً سوداء على الورق.
****
بعد سبع سنوات من الحب الذي جمع بين قلبيهما، أعطتهما الحياة فسحة يحققان من خلالها أحلامهما التي رسماها خلال سنوات حبهما، وعاشا في فرح ما بعده فرح، لكن الحياة لم تصفُ مشاربها معهم حيث استشهد أخوها أثناء أدائه لواجبه في الدفاع عن الوطن، ولم تكن قد استفاقت من وجع فقدها، حتى استدعي خطيبها لخدمة الاحتياط، فانتابتها حالة من الكآبة واليأس، بسبب عدم معرفتها أي خبر عنه.
استمر الوقت هكذا، وأخذت حياتها تمضي رتيبة باهتة.. سياج من إحساس ورهبة يحيط بها فيحيلها إلى سجينة على حدود مرسومة بالترقب والانتظار.. ليست تغيب لحظات تسمّرت في الذاكرة مشحونة بتوتر العاطفة واستذكار أوقاته الجميلة، تشعر أنه بين نبضة متسارعة وأخرى سيخرج من وراء أستار البعد الحالك ويومي لها بابتسامة شذية، ويغمرها بطيبه الأنشودي الذي يطرّز وجدانها بالشوق والحنين، لكنها تفتح عينيها على سراب، وتستسلم لوحدة تكاد تطفئها، فتلتصق بالهاتف تنتظره أن يرن، أن يرسل لها صوتاً، حرفاً، سلاماً.
****
كلما هتف القلب لها ما فيه ناء الصوت منها وبدا صدى.. كلما همت روحي على يدها أحسست فارق الدفء بين راحتها وتلك اللمسة الأولى.. كيف خمد ذاك التوهج الهني.. كيف لوت قرنفلة قلبها احمرارها.. وتلك الغمامة الندية التي توسدت روحي أين تبعثر غيثها.. قد تكون حالة ارتباك وإحباط عام تمر بي.. تركت لقلبي أن يحكي ما أحس.. كيف تشتاقني عادة.. كدت أنسى، اليوم أحتضن صوتها البلوري الشفيف الذي أحب.. فيأتيني كما سراب أو صدى.. أسمع صوتها ذابلاً موجوعاً يواري ارتجافه عني ويطرز فوق ألمه بعضاً من ابتسامات لا يخفى عني أنينها.. أسمعه مسبوكاً في قالب من عدم الوضوح.. أحاول أن أعرف كيف حدث هذا الانكسار، وما الذي أغرق ذلك الصوت الرنيم في بركة التعب والانطفاء، فيأتي ردها في منظومة الإبهام والتهرب فيزيد هذا فيّ قلقي وانشغالات بالي عليها، وهي تعرف كم يعذبني أن تقتلع شعرة منها وتترك على وجهها تعبيراً صغيراً وعابراً من التعب.. كم يعنيني أن تكون معافاة دائماً ومشرقة، وتمور بالصحة كتفاحة يانعة، وكم يهمني أن لا يسرق شيئاً منها التماع عينيها الجميلتين ولا نضارة وجهها الرائع.. ولا يعكر شيء صفو صوتها الجدولي الذي ينساب في روحي سريعاً يؤلّقني ويسقي عشبة الحب التي زرعتها هي في قلبي.. أخبريني ولا تغلقي باب عذاباتك عليك وتتركيني على رصيف حيرتي وارتباكي.. أخبريني لأني نصفك الذي يحمل من أوجاعك وجعاً، ومن أحزانك حزناً.. دعيني أحمل عنك بعضاً منها.. ولو أوتيت فرصة صغيرة لحملتها كلها.. تعالي نتقاسمها على الأقل.