معرض عصام المأمون.. نحو الفكرة بخامة التعبير

تُعرض هذه الأيام في صالة زوايا للفنون الجميلة بدمشق أعمال للفنان التشكيلي عصام المأمون الذي سبق وأن أقام معرضاً منذ عامين في الصالة نفسها، وقبله بسنوات عرض في صالة لؤي كيالي في الرواق العربي، هذه العروض المتتابعة تمتلك خاصية البحث والتجريب في إمكانية التعبير عبر خامة نافرة تختلف في حضورها عن المادة التقليدية الملوّنة كالصباغ والمعاجين والإكرليك، ولربما هذه هي الخاصية العميقة لهذا الفنان الذي يحاول أن يحقّق تلك الشخصية الفنية النافرة بحضورها وقناعاتها بما يخصّ اللوحة المسندية وفنّ الرسم عموماً، ولا بد من ذكر أن الفنان عصام المأمون هو من خريجي قسم التصوير في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق، ويعتبر أنه أحد أولئك الطلبة المحظوظين بأساتذتهم المتميزين في التشكيل السوري “فاتح المدرس، ميلاد الشايب، محمود حمود”، هذا الميراث الذي يسعى المأمون -حسب رأيه- هو ذخيرة خبرته ومنطلقها نحو البحث بعيداً عن محاكاة الآخر أو تقليده، هو الميراث الذي يجعل من هذا الشاب منطلقاً نحو مساحات أكثر شجاعة وحرية في طرق أبواب التعبير البصري واستكشاف حلول جديدة في “معضلة التصوير الكلاسيكية التي يقع فيها أغلب أبناء جيله من الفنانين”.

في هذا المعرض استثمر المأمون مادة لحاء النخيل ليصنع منها اللوحة التي ينشدها معبرة ومستفزة لرائيها، وكأنه يلقي زائره في حفرة من الأسئلة عن مقاصد هذا الفنان المشاكس للألم والوجدان الإنساني، فلا نجد لوحة تخلو من رسم تلك العيون والوجوه المرهقة المشكلة من انثناءات القماش وتجاعيده، أو من خلال تلك التضاريس التي أحدثت جراء لصق لحاء الشجر على سطح القماش بطريقة الروليف النافر مع إضافة بعض من اللمسات الملوّنة أو بعض الخطوط السوداء المحدّدة لهذا الشكل، جملة نافرة ومرهقة للسطح التصويري الذي تخلّى عن وظيفته كحامل للون وأضحى حاملاً لكتلة ملصقة على القماش ونافرة أكثر من المتوقع لاحتمالاتها!، في دلالة على خبرة تقنية في عملية الكولاج البالغة الحضور والتي تحوّلت إلى جسم نافر أكثر من احتمالات القماش الفيزيائية، ربما هنا مكمن الخاصية العميقة لسكيولوجية هذا الفنان الذي يستصرخ لغته البصرية إلى أبعد حدود التعبير والاستعراضية بآن معاً، وحسبي أن بين العمل المنجز أو اللوحة والفكرة هوة خطيرة يردمها مبرّر التجريب والاستكشاف مغلفاً بمناخ حرية الفن كمفهوم يتسع لكل احتمالات النجاح والفشل على حدّ سواء.

يقول المأمون: “لوحتي تحمل موضوعات إنسانية بصيغ تعبيرية تُظهر الحالة الداخلية للإنسان من انكسارات ومعاناة، خصوصاً خلال الفترة الصعبة التي مررنا فيها، لا أعرف إذا كانت هذه التجربة بداية النهاية أو مرحلة جديدة نحو الانتقال إلى خطوات أقوى وأكثر جرأة”. والسؤال: هل يجيب هذا المعرض عن تلك التساؤلات؟. ويتابع: “عندما ضاقت الأطر على استيعابها، لفظت روحي وفكري تلك الأشكال خارج جدران العمل فكانت مشاهد بصرية تعبيرية مغايرة، هي تجربة جديدة وجريئة من تجاربي تجمع عدة اختصاصات تشكيلية للوصول لمشاهد بصرية جديدة معاصرة، أرجو أن أكون قد وفقت بها”.

من جهته يقول الناقد غازي عانا حول المعرض: كنت تحدثت قبل عام في ندوة ببعض الأفكار حول تجربة الفنان التشكيلي عصام المأمون وخاصة التي عرضها في غاليري زوايا 2020، عندما اطلعت على بعض الأعمال واللوحات التي سيقدمها في هذا المعرض الجديد، أعيد تلك السطور متأكداً أكثر من مدى صحتها وقناعتي بما كتبت في وقتها، وبرأيي هي تصحّ لهذا المعرض أكثر، خاصة وأن دفق التعبير أصبح أكثر قوة وتأثيراً على المتلقي لما تعكسه مجموعة الأعمال الجديدة من حالة الصدق التي فاضت من عناصر العمل الأساسية في اللوحة مقلّلة من حجم الصدمة على المشاهد ومضيفة في الوقت نفسه كثيراً من العفوية للخطوط التي رسمت حدود وشكل الوجوه وتداخل الأجساد بهذه الرشاقة والحيوية، متجاوزاً الكثير من المفاهيم الأكاديمية أو ما هو متعارف عليه وسائد في التصوير باختلاف تقنياته عموماً، هي شكل أو طريقة تعبير ضمن مفهوم الحداثة التعبيرية خاصة به، استطاع الفنان بإصراره أن يضيفها تدريجياً إلى ذائقتنا حتى أصبحت اليوم علامة تميّزه كمصوّر في المشهد التشكيلي السوري.

أعتقد أنه مازال بإمكان الفنان عصام المأمون الانتقال إلى خطوات أقوى وأكثر جرأة في المعالجة أو في الصياغات الخاصة، ولو افترضنا جدلاً أن بإمكانه ذلك، ستكون المهمة أصعب على المشاهد في التلقي، لأن حجم الألم والحالة المأسوية للأشخاص في لوحاته ستتجاوز ما هو متاح كأدب في العمل الفني حتى لا يتحوّل إلى تقرير على حساب التشكيل كحالة جمالية. هي جرعة التعبير التي أرادها الفنان مع المحافظة على حدود شكل ودور اللوحة في عكس مشاعرنا في تلك اللحظة من الانشغال، مع مراعاة ذائقة المتلقي ومزاجه والحالة النفسية والمعنوية التي يعيشها الإنسان السوري اليوم في هذه الظروف الاستثنائية والمهيأة أصلاً للاحتمالات الأسوأ من بؤس وإحباط وشظف العيش بأشكاله، قدّم الفنان عصام المأمون في هذا المعرض إضافة جديدة أكثر جرأة في تعرية الحالة التي أرادها بهذا الشكل من الوضوح والصراحة، وقدّم بلا شكّ جهداً واضحاً في بذل أقصى ما لديه من خبرات تقنية لتقديم ما هو مختلف عن السائد في المشهد التشكيلي عموماً إن في التأليف أو بالصياغات التي كانت متنوعة من حيث استخدام الأدوات والمواد المضافة إلى سطح العمل على اختلافها والتي كانت مفاجئة ومُستغرَبة للبعض للوهلة الأولى، حتى منظومات الألوان المستخدمة كانت هي أيضاً مختلفة وغريبة في بعض الأحيان، لتألفها العين بعد مشاهدة أو أكثر، وتضاف إلى ما يميّزه من خصوصية، كل هذا الاشتغال والتجريب أصبح متاحاً بل ضرورياً بمفهوم الحداثة اليوم لتقديم منتج مغاير ومواكب لثقافة هذا العصر ووسائل التعبير الجديدة بسبب توافر المواد والأدوات التي أصبح بالإمكان استخدامها في أشكال الفنون المختلفة بحسب طبيعتها وحاجة الفنان لها، وخاصة تلك التي شكّلت للعمل الفني قيمة مضافة جمالياً وتقنياً.

تجربة مجتهدة تعكس تجريباً مضنياً ومهارات في المواد والأدوات، وطريقة تفكير تحترمها لجديتها وجديدها.

عصام المأمون بحث عن المدهش دائماً والمختلف عن السائد ليشكّل معرضه الجالي علامة فارقة في الحالة التشكيلية السورية المعاصرة.

أكسم طلاع