مجلة البعث الأسبوعية

طائرتي الورقية.. “لن يكون هناك هروب إلى البعيد”!!

“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين

كل المحاولات التي قمت بها لصناعة ونسج وخياطة وترقيع طائرتي الورقية باءت بالفشل، عداك عن محاولات إقلاعها وحملها بعيداً عبر أجنحة الريح. كنت أجلس وأنا أحتضنها بذراعي مستنداً بها على ركبتي وأنا على تلة الشيخ منصور، قرب مدينتي سراقب، أشعر بالأسف لفشلي وبالغبطة لكل أقراني وهم يتراكضون وبيدهم أطراف خيوط طائراتهم الورقية وهي تحلق في الفضاء الرحب تراقص الغيم وتفر من قوانين الجاذبية ومن محاولات الغيم مجاراتها في التحليق.. مرت سنوات الطفولة كلها وأنا الفاشل الأكثر سوءاً في حظه بالتعامل مع الطائرات الورقية، وحتى لحظة كتابة هذه الأسطر ما تزال تلك اللحظات الطفولية العالقة في مخيلتي تجتاح بموجات من الضحك والابتسامة في الحوارات التي تدور بيني وبين أصدقاء تلك المرحلة البكر.

في الأمس القريب، شاهدت طائرة ورقية صغيرة لونها أخضر وبذيل من قصاصات ورقية برتقالية تشق عباب السماء، فعادت بي الذاكرة إلى تلك الزاوية البريئة من تفاصيلنا: القدرة على امتلاك موهبة استجلاب اللحظات الحميمية وتحويلها إلى أفكار قصص طفولية هي أساس المواهب التي يجب أن يمتلكها كاتب قصص الأطفال، فكم من التفاصيل السورية الخام الخاصة بطفولتنا حري بها أن تكون نبراساً لكتابة جدول من الأفكار القصصية.

 

عداء الطائرة الورقية

الكل يدرك أن الأخبار العالمية كلها اتجهت بأنظارها نحو أفغانستان وانسحاب القوات الأميركية منها، وما تبع ذلك من إرهاصات وتداعيات وأخبار ملأت فضاء الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. وعلى مقلب مواز، انتشرت حمى من نوع آخر، حمى البحث والركض وراء الأدب الأفغاني، وأهم من كتب وأبدع فيه، فكان للروائي الطبيب خالد الحسيني نصيباً وافراً من البحث والتمحيص والقراءة واقتباس جمل من رواياته وتحليل لمقارباته الواقعية لبيئة وتفاصيل حياة وتضاريس الواقع الأفغاني.

الذي لفت انتباهي هو عنوان من عناوين روايات خالد الحسيني، وهو “عداء الطائرة الورقية”؛ واللافت أيضاً أن المبدع د. أحمد خالد توفيق قام بترجمة نسخة منها طبعت على شكل رواية مصورة بطريقة الكوميك من رسوم الفنان فابيوتشيلوني وميركا اندولفو؛ وقد أبدع جميع العاملين في تلك التحفة المصورة في نقل مشاعر المؤلف وحرفته الروائية لتتحول إلى لغة بصرية وفنية عالية مع اختصارات مميزة للمشاهد أو العبارات والتعابير.

الغيرة من نجاح أصدقائي رفاق الطفولة في القدرة على تحليق طائراتهم الورقية عالياً اجتاحت فؤادي فجأة، ولكن هذه المرة بشعور يوازيه نحو فن القصة المصورة السورية، فن “الكوميك” الجميل الذي أسس له ممتاز البحرة وشركاه.. لماذا غاب هذا الجنس عن خارطة الثقافة السورية وكاد أن يندثر من دائرة الاهتمام والرعاية؟!

هل من عناوين جديدة في مكتبة الأطفال واليافعين لهذه الكتب السورية؟ الجواب لا!!

هل من محاولات جادة لإحياء هذا الجنس والصناعة العالية الكعب والعالمية الهوى لتكون جزءاً من منظومتنا الثقافية لأطفالنا؟ الجواب لا!!

وكلما سألنا سؤالاً في هذا المضمار، أنا متأكد أن الجواب دائماً وأبداً سيكون: لا.

لماذا هذه الـ “لا” هي السؤال الأكبر، والواجب الإجابة عليه بصدق وإرادة ووعي؟

فن “الكوميك” السوري بحاجة إلى ألف كاتب ومصور ورسام ومخرج ومبدع، وبعرف الصناعة هذه أكبر كمية من المنتجين تتجمع في إصدار منتج واحد يصب في خانة التربية والتعليم والثقافة لأطفالنا.

أقتبس من رواية الحسيني العبارة التالية: “عندما كنت صغيراً جداً، تسلقت تلك الشجرة، وأكلت تلك التفاحات الخضراء الحامضة، انتفخت معدتي وأصبحت قاسية كالطبل، آلمتني كثيراً، قالت أمي أني لو انتظرت إلى أن نضج التفاح لما مرضت.. هكذا الحال الآن، كلما رغبت شيئاً بشدة، أحاول تذكر ما قالته أمي عن تلك التفاحات”.

 

 ****

كم هو جميل، كما هو حال الدراما لو تمت ترجمة أهم الروايات الأدبية لكتابنا السوريين الكبار والعظام لتصبح قصصاً مصورة بطريقة “الكوميك”، وتعرف الأطفال واليافعين على نتاج آبائهم وأجدادهم الأدبي بطريقة تناسب لغتهم ومفرداتهم وذائقتهم، ولكانت تلك القصص المصورة شكلت رديفاً لدعم مكتبة أطفالنا ونواة على شكل “ستوري بورد” تصلح لتتحول، في ما بعد، إلى أعمال سينمائية أو تلفزيونية، أو حتى أفلام رسوم متحركة تنافس باقي الأعمال العربية والعالمية.

حين كنت اجلس وأنا احتضن طائرتي الورقية، متحسراً متأسفاً لفشلي في جعلها تحلق عالياً، كنت أبثها بعضاً من مواجعي، واعتذر لها لعدم قدرتي على جعلها تطير بين رفاقها عالياً، وربما كان حالي يقول – اقتباساً من رواية عداء الطائرة الورقية :

“أريد أن أمزق نفسي من هذا المكان، من هذا الواقع.. أريد أن أرتفع كغيمة وأطوف بعيداً.. أن أذوب في هذه الليلة الصيفية الرطبة وأتحلل في مكان بعيد، فوق التلال.. لكني هنا، رجلاي خرسانتان من الحجر، رئتاي خاليتان من الهواء، حنجرتي تحترق، لن يكون هناك هروب إلى البعيد، لن يكون هناك واقع آخر الليلة”.