ثقافةصحيفة البعث

همنغواي جندي يعود إلى وطنه

تعدّ قصة “عودة جندي” من كلاسيكيات إرنست همنغواي المبكرة لثلاثة أسباب على الأقل: أولاً، أن المؤلف يستحضر بقوة الإحساس بالإيجاس الذي عانى منه الجنود الأمريكيون في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى أقرانهم الذين لم يخوضوا أي معركة. وصوّر هذا الإيجاس العديد من معاصري همنغواي: كالشاعر الأمريكي توماس إليوت في قصيدة “الأرض اليياب”، أو الروائي الأمريكي شيروود أندرسون في كتاب “وينسبورغ، أوهايو”، على سبيل المثال لا الحصر. ونقل همنغواي هذا الإحساس على نحو فذّ أيضاً في كتاب “قصص نِكْ آدامز”.

ثانياً، توضح قصة “عودة جندي” اهتمام همنغواي البالغ بحرفته من حيث الجمل الموجزة المحبوكة بإحكام، وهي حرفة تأثرت بالروائي الأمريكي غيرترود شتاين خلال فترة حياة همنغواي في باريس. والسبب الثالث استخدام همنغواي أسلوب “الجبل الجليدي” في هذه القصة (ويعرف أيضاً باسم “نظرية الإسقاط”)، فلا يظهر همنغواي إلا أقل قدر من مشاعر ودوافع الشخصية الرئيسية، هارولد كريبس، في النص، حتى إنه يبقي عليها مغمورة في النص ليستنبطها القارئ. ويجانب ذلك كون القصة تنبع من تجارب المؤلف بطريقة تأسر لبّ من يقرؤها، مثلها في ذلك كمثل معظم قصص همنغواي عن الحرب.

ومع ذلك، يشير العنوان الساخر بوضوح إلى أن تجارب هارولد في زمن الحرب كامنة في صميم عجزه عن الارتباط بموطنه القديم في أوكلاهوما، فقد عاد متأخراً عن غيره من الجنود، فحُرم من الترحيب الحار بالأبطال الذي تلقاه من سبقه، إذ عاد في وقت ملّت فيه المدينة من الحرب وأمست تسخر منها، ويعلق هارولد بين عدم الرغبة في قصّ تجاربه المروعة –إذ حارب في خمس معارك دموية في الحرب– وبين أمنيته أن يجد شخصاً راغباً بالاستماع إليه وفهمه، وهذا يولد في داخله شعوراً بالغربة في المدينة وفي منزل والديه، فيشعر في قرارة نفسه أن ألمانيا أو فرنسا “وطنه” أكثر مما يشعر في مسقط رأسه أو في منزل طفولته.

ويعدّ موقف هارولد تجاه المرأة عنصراً آخر في هذه القصة، وكان من المفترض أن يمسي سمة من سمات أسلوب همنغواي في الكتابة، ويثير كثيراً من الجدل. وتعلّم هارولد من السنوات التي قضاها في البحرية الأمريكية أنه لا يحتاج إلى النساء في معظم الأوقات، وأن المرأة ستكون متاحة دوماً عندما تعتريه رغبة جنسية. لكن بعدما عاد إلى موطنه، بات يصف نفسه بأنه “متفرج” على النساء، بمعنى أنه رجل يقدّر جمالهن لكنه يفتقر إلى الطاقة أو الرغبة في الانخراط في طقوس التودّد التقليدية، كما أعرب هارولد أيضاً عن كراهيته لوالديه، ولوالدته بوجه خاص، إذ صوّرها الراوي أنها الوصيّ على القيم الدينية وقيم الطبقة الوسطى التي تخنقه. وفي نهاية القصة، تعهّد هارولد بمغادرة المنزل إلى مدينة كانساس سيتي، مثلما فعل همنغواي. وفي غضون ذلك، يذهب لمشاهدة شقيقته هيلين، التي تحبه حباً جماً، وهي تلعب البيسبول في قاعة مغلقة، فهو يعلم أن هيلين لن تتلفظ بعبارات تجبره على الكذب، على عكس والدته وأهل بلدته.

ترجمة: علاء العطار