سَفَر في المشاعر

عبد الكريم الناعم

جلس صديقي وفي وجهه علامات، نظر إلي وكأنه يفرش بساط كلام يحتاج إلى من يفك رتاجه، قلت له أستثيره: “في وجهك كلام محبوس”.

قال بابتهاج: “وكيف لا تجيد قراءتي ونحن معاً منذ اليفاع”؟!.

قلت: “إذنْ هات ما عندك”.

قال: “أرجو ألا تنزعج، فأنا حين أحاورك أُحاور نفسي”.

قلت: “ابتعد عن المداورة، وقل ما تشاء وأنا حر أجيب أو لا”.

قال: “تلك حريتك، سأبدأ من ملاحظة لمحتها، ففي جلسة عابرة، لمّح أحد الزائرين إلى شيء ربما لا يلتقطه إلا من يدرك أن الكلام موجّه، بطريقة خفية إليه، فاحمرّت وجنتا سيدة تكاد تكون جدة، احمرّت كما يتورّد خد فتاة خجولة تسمع كلمة إطراء، فباغتَني استغراب ما”.

قلت: “يا صديقي، نحن نتقدّم في السن، وتشيخ خلايانا بنسب مختلفة، أما المشاعر فلا تشيخ لأنها من عوالم الروح، وهذا ما يجعلنا نتمتع رغم الشيخوخة برائحة الورد، ونستقبل الكلمة الطيبة، ونقرأ بعض الأشعار فتستفيق كوامن عميقة، وتلك نعمة لا يدركها إلا من يتنبه إليها، تصوّر لو أن هذا غير موجود، وأن مشاعرنا وأحاسيسنا الروحية تشيخ معنا لكنّا حينئذ في عداد الأموات/ الأحياء بعد عمْر معيّن، واللافت أن مجتمعنا يتعامل مع الشيوخ المتقدمين وكأنهم أموات، بينما نرى في لقطات تُنقَل من البلدان الموصوفة بالتقدّم، فنرى الشيخ في حفلة ما يرقص مع من هم في عُمر أحفاده، ويحتفون به”.

قال: “البارحة، وأنا أنقّل إبرة المذياع، سمعت أغنية من أغنيات الطرب الجميل، فبقيت لعدة دقائق أمام مشاعر متداخلة يصعب وصفها، أشعرتْني بأن الورود لاتزال تتفتّح، وأن الصباحات تتجدد”.

قلت: “حين نستمع إلى ما ذكرت فلسنا نسمع اللحن، والكلمة، وتتغلغل في أعماقنا نشوة لاذّة فقط، بل نحن نضيف إليه، بصورة ما، بهارات ذكريات مررنا بها، وأحلام ربما لم تتحق، وآفاق سنظل نحلم بارتيادها، وهذا بالتأكيد ما يجعلنا ننفر من الزعيق، والضجيج، والاستعراض بالجسد، الغالب على فنون هذه الأيام، هل تصدق أنني أحياناً أمرّ بمقاطع من الذكرى فأشتم رائحة المكان والزمان فيها”.

ابتسم وقال: “هذا أنت تذهب إلى الشعر حتى في الوصوفات التي تبدو بعيدة عن عوالم الحلم”.

قلت: “أتعني أني أبالغ لدرجة الكذب”؟!.

قال بلهجة اعتذار: “أعوذ بالله ما قصدت إلى هذا، أرجوك ألا تتوقف عند هذه، ودعني أُكمل، هل مازلت سريع الغضب والانفعال، وعلى الدرجة ذاتها التي كنتَها من قبل”؟.

قلت: “الانفعال نعم، أما الغضب فلا”.

قال: “لم أفهم”.

قلت: “الانفعال هو ما يبقى في الأعماق، وانفعالاتنا جزء من تكويننا، وهذا موجود، ولكنني أحتمله، ولا أسمح له أن يصل إلى مواقع الغضب، وهذا يحتاج إلى ترويض نفسي قاس، وقدرة على ضبط النفس، وباعتقادي أنه مع مرور الزمن يتحوّل إلى ما يشبه الطبع، تنفعل ولا تغضب، لأن الغضب يقتضي ردة فعل حتى ولو كانت مكظومة، بينما الانفعال يظل في ساحة داخلنا ولا يتجاوز ذلك”.

مطّ عنُقه كعادته وقرأ على ورقة أمامي مفردة: “جوعان”.

فقال باستغراب: “ما هذا”؟!.

أحاطت بي مشاعر موجة من الحزن والعجز العميقين، فتنهّدت وقلت له: “البارحة بعد العشاء سمعت طرقاً على الباب، ففتحته وإذا أنا بشاب يبدو عليه البؤس، والمرض، وبالكاد يُفهم الكلام، وشككت في عقله، فبادرني بصوت خفيض خائف وقال: “جوعان”، قل أعطيته ما تيسّر من طعام، وأحسست أن هوّة لا قرار لها قد انفتحتْ أمامي، وشعرت برغبة حارّة في البكاء”.

aaalnaem@gmail.com