العنصرية أساس غير معلن للغزوات الإمبريالية الأمريكية
“البعث الأسبوعية” ــ عناية ناصر
أثار فشل الولايات المتحدة في منع طالبان من استعادة السلطة السياسية في أفغانستان مشاعر الذعر في مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية. وقدم دعاة الحرب وأتباعهم المخلصون مطالب لا نهاية لها لاستمرار الاحتلال الذي زاد عن عشرين عاماً إلى أجل غير مسمى. وحثت الوجوه المألوفة من مؤسسة المحافظين الجدد، مثل جون بولتون وبيل كريستول، جو بايدن على إعادة النظر بالانسحاب لأسباب تتعلق بـ “الأمن القومي”، بل إن مجموعة أكبر تمسكت بالاعتقاد بأن الولايات المتحدة يجب أن تبقى في أفغانستان على أساس أن حياة النساء كانت في خطر وشيك في ظل حكم طالبان.
كانت أفغانستان هدفاً للعدوان الأمريكي منذ عام 1979، عندما وافق جيمي كارتر على تقديم مساعدة مباشرة لمجاهدي طالبان. واستطاعت الحرب الدموية بالوكالة التي تلت ذلك أن تطيح بالحكومة الاشتراكية في أفغانستان وصنعت للاتحاد السوفيتي “فيتنامه” الخاصة به. وفي عام 2001، استخدمت الولايات المتحدة هجمات الحادي عشر من أيلول ذريعة لغزو أفغانستان والإطاحة بحركة طالبان، التي حكمت لسنوات متتالية بعد أن انزلقت البلاد في قبضة أمراء الحرب. ولقي أكثر من مائة ألف مدني مصرعهم في الحرب، وتحولت أفغانستان إلى مستعمرة جديدة غير مستقرة ابتليت بالفقر المدقع وتجارة الهيروئين غير المشروعة.
تكشف الكارثة في أفغانستان كيف تنبعث العنصرية من كل صرح من صرح الحروب الإمبريالية، إذ تعمل الحرب على تجريد ضحاياها من إنسانيتهم. لقد زعم أن أفغانستان بحاجة إلى الولايات المتحدة لتحقيق ولو قدر ضئيل من “الحضارة” (البيضاء)، واعتُبر شعب أفغانستان غير قادر على التمتع بحق تقرير المصير بدون اليد القديرة للجيش الأمريكي. ومن ناحية أخرى، تم تصوير طالبان وكأنها “قلب الظلمة” الذي يجب محوه بعيداً حتى يترك شعب أفغانستان وجوده “البدائي” وراءه.
لم يمض وقت طويل على استعادة طالبان للسلطة السياسية حتى انشغلت إدارة بايدن بتوسيع مسرح الحرب الأمريكية خارج منطقة الشرق الأوسط، فقد تم فرض العقوبات على إريتريا كجزء من الجهود الأمريكية المستمرة للحفاظ على الهيمنة الإمبراطورية في القرن الأفريقي من خلال إحياء الدمى الأكثر نفوذاً في المنطقة؛ وركزت زيارة نائب الرئيس كامالا هاريس، في أواخر آب الفائت، إلى سنغافورة وفيتنام، على المخاطر التي تشكلها الصين على آسيا في محاولة لتصعيد الحرب الباردة الأمريكية الجديدة. وقبل الزيارة مباشرة، ادعى المسؤولون الأمريكيون أن فيتنام كانت مركز انطلاق “متلازمة هافانا” الغامضة.
ومتلازمة هافانا” مرض مفبرك تماماً يُزعم أنه أصاب أشباح المخابرات الأمريكية المقيمين في كوبا والصين والنمسا. ففي عام 2019، اشتكى مسؤولون أمريكيون مجهولون من مرض مماثل واتهموا الحكومة الكوبية بشن “هجمات صوتية” كشف المحققون لاحقاً أنها أصوات صراصير الليل. وزعمت تقارير لاحقة أن التعرض المفرط لمبيدات الآفات قد يكون قد سهل “متلازمة هافانا”. وعلى الرغم من الخطر المتصور “لمتلازمة هافانا” في فيتنام، أكملت كامالا هاريس خطبتها المعادية للصين من خلال وصف القوة الاشتراكية بـ “المتنمرة” في بحر الصين الجنوبي. وطالبت الصين بالالتزام باتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وهي المعاهدة التي صدقت عليها الصين منذ فترة طويلة ولكن الولايات المتحدة لم توقع عليها بعد. ففي إطار استراتيجية الدفاع الأمريكية التي تعمل على بث الفوضى العالمية، تنظر الولايات المتحدة إلى دول العالم الضعيفة على أنها ليس لها حقوق ملزمة باحترامها. ويتم تبرير مجموعة من الاستفزازات العسكرية والسياسية والاقتصادية من خلال تأكيدات خالية من الأدلة بأن الصين تشكل “تهديداً” لمنطقتها. ويُنظر إلى الحروب الأمريكية التي لا نهاية لها في أفغانستان والشرق الأوسط وأفريقيا على أنها ضرورية لكبح “الإرهاب”، وأن الولايات المتحدة هي حامل راية التفوق الأبيض الذي يتحمل مسؤولية تطهير السكان الأصليين من نزوعهم إلى البربرية.
توفر العنصرية غطاءً وافياً للمصالح الاقتصادية التي تخوض الولايات المتحدة الحروب التي لا نهاية لها من أجلها. ولقد ازدادت العقود الفيدرالية لمصنعي الأسلحة بمقدار 119 مليار دولار من 2001 إلى 2020، ويرجع ذلك في جزء كبير منه إلى وفرة فرص السوق التي أسس لها احتلال أفغانستان. كما أدت الحرب الباردة الجديدة ضد الصين وروسيا إلى توسع الموارد العسكرية الأمريكية في آسيا وأفريقيا. ويوجد أكثر من خمسين بالمائة من جميع الأصول العسكرية الأمريكية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وتمتلك القيادة الأمريكية الأفريقية “أفريكوم” الآن شراكات مع جميع الدول الأفريقية باستثناء دولة واحدة هي إريتريا. وتخدم الحرب عدداً لا يحصى من المصالح المترابطة للطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة، ومع نمو سوق المقاولين العسكريين الخاصين، نمت أيضاً أرباح مستثمري وول ستريت، إذ تزود شركات الوقود الأحفوري، أحد أكبر الملوثين في العالم، الجيش الأمريكي بالطاقة الخام اللازمة لتسهيل النوسع الأمريكي اللانهائي. وكثيرا ًما ترتفع أسهم النفط مع كل احتمال جديد للحرب؛ كما تساعد الهيمنة العسكرية في تأمين أسواق مربحة من خلال تنصيب أنظمة سياسية موالية. ولقد ألمح الرأسمالي إيلون ماسك إلى هذه الحقيقة، في تموز 2020، عندما غرد على تويتر: “تستطيع أميركا أن تحدث انقلاباً أينما أرادت، وعليكم أن تتقبّلوا الموضوع”.
كان ماسك يشير إلى التكهنات بأن رغبة تسلا الشديدة في خصخصة ودائع الليثيوم في بوليفيا هي التي حفزت الانقلاب ضد حكومة إيفو موراليس الشعبية، عام 2019. وبالنسبة للإمبرياليين، فإن العالم هو مجرد سوق للربح يمكن النهب منه. ويتم تنحية الإنسانية جانباً؛ وأي شعب أو أمة يتحديان سلطة آلة الحرب الأمريكية، يتم استهدافهما والعمل على القضاء عليهما. ومع ذلك، لا يمكن أن يحدث هذا الاستهداف ما لم يتم تجريد المستهدفين من حقهم في الوجود وإحالتهم إلى مرتبة المتوحشين.. وهذا هو السبب وراء اتهام حكومات سورية والصين وإيران وفنزويلا وإريتريا وعدد لا يحصى من الدول الأخرى بارتكاب جرائم ضد الإنسانية لا يمكن التحقق منها أو من أنها لا شرعية.
وفي الواقع، غالباً ما يكون العكس هو الصحيح. ويمكن القول إن الصين، على سبيل المثال، لديها أفضل استجابة للوباء في العالم، وقد نجحت في القضاء على الفقر المدقع بعد أن كانت واحدة من أفقر البلدان قبل جيلين فقط. وينظر مواطنو سورية إلى حكومتهم على أنها المدافع الشرعي عن شعب محاصر من قبل الولايات المتحدة والإرهابيين المدعومين من الغرب. وقد قامت الحركة البوليفارية الفنزويلية ببناء ملايين المنازل للسكان الفقراء، وقدمت مثالاً مهماً للتنمية ذات التوجه الاشتراكي في أمريكا اللاتينية. وتحت التشويه ومن خلال استخدام ذرائع “الديكتاتورية”، عادة ما يشوه النضال من أجل تقرير المصير الذي تريد الإمبريالية الأمريكية هزيمته بشدة. كان صعود الولايات المتحدة ممكناً بفضل التجارة الرجعية في اللحم الأفريقي والإبادة الجماعية وسرقة أراضي السكان الأصليين؛ وكل ذلك كان يتم تبريره بالحق الإلهي للمستوطنين والرأسماليين البيض في فرض العنف على أي شخص غير أبيض يقف في طريقهم. ولذلك ينبغي ألاّ يكون مفاجئاً، إذن، أن إمبراطورية ولدت من مثل هذا التاريخ الأسود ستصدر إرهابها إلى الخارج. والحقيقة هي أن حروب الولايات المتحدة في الداخل وحروبها في الخارج لا يمكن فصلها عن بعضها، حيث يقوم المقاولون العسكريون بجني الأموال من عمليات نقل الأسلحة إلى إدارات الشرطة المحلية بناءً على مجموعة من المبررات العنصرية لحالة السجن الجماعي لإرهاب الأمريكيين السود، كما أنهم يستفيدون من تهديد آلة الترحيل التي تصنف الأشخاص غير المسجلين على أنهم “غير قانونيين” من أجل “مراقبة الحدود”. ولا يمكن إنهاء الحروب من الكوكب دون حركة جماهيرية تقودها رؤية واضحة تضع السلام والتضامن في جدول أعمالها العام، كما لا يمكن لمثل هذه الحركة الجماهيرية أن تتشكل حتى يتم مواجهة تلك المنظمات والنشطاء المستعدين للترويج لأكاذيب وزارة الخارجية العنصرية بالمثل. إن الإمبريالية هي التناقض الأساسي الذي يغذي الأزمات التي يواجهها العالم، ويجب الاعتراف بجذورها العنصرية قبل أن يتم هزيمتها.. إنه بالفعل صراع صعب، لكن لا بد من الفوز به.