مجلة البعث الأسبوعية

المراكز الثقافية أحرقت والمسارح دمّرت وأمهات الكتب النادرة والمخطوطات آلت إلى رماد مديرية ثقافة دير الزور تنهض من جديد رغم حقد الإرهاب والظلامية

“البعث الأسبوعي” ــ وائل حميدي

حين يكون الهدف إلغاء الهوية الثقافية لمنطقة ما، وطمس معالم التراث – ما أمكن – فيها، وتكسير المنحوتات النفيسة المُدلِّلة على تاريخ المكان، فهذا يعني الحقد بعينه، ليس من قبل من ينفّذ، بل من قبل الآمِر والمُموّل لهذا التدمير.

مديرية الثقافة بدير الزور، تلك التي طال حقد الإرهاب مائة بالمائة من مبانيها، وفقدت أشهر مكتباتها التي احتوت على عيون الكتب وأمهات العناوين، ووجدت نفسها بفعل الإرهاب الممنهج وقد فقدت نصف كادرها، وآلياتها كافة، والمخطوطات والكتب النادرة جميعاً، وفقدت مسارحها الحديثة التي فاقت كلفتها مليارات الليرات السورية.

أمام كل هذا الواقع المزعج، كان لابد وأن تعلو كلمة العلم والثقافة والمعرفة، وكان لابد من الاستمرار مهما بلغت الظروف المحيطة من ترد وصعوبة.

مديرية الثقافة في محافظة دير الزور، حديث الوجع، وقرارات القوة، والنصر المؤزَّر على جهل وتجهيل الإرهاب وعقليته الرجعية.

“البعث” التقت مدير الثقافة في دير الزور أحمد العلي، ومدير المركز الثقافي أحمد يساوي فكانت التفاصيل المؤسفة، وكانت الإرادة والإصرار على الاستمرار.

يقول مدير الثقافة أحمد العلي: يتبع لمديرية الثقافة قبل عام ٢٠١١ سبعة وعشرون مركزاً ثقافياً، وجميعها تعرّضت للحرق والتخريب والتدمير الممنهج من قبل العصابات الإرهابية المسلحة، ما أخرجها جميعاً عن الخدمة، وباتت بحاجة كاملة لإعادة التأهيل؛ وبعد تحرير المحافظة، نهاية عام ٢٠١٧، لم نتمكن من تأهيل سوى مركز الميادين الثقافي، المؤلف من دورين، وبدأنا فعلياً بتأهيل مركز مدينة دير الزور، وكل ما تبقى ما زال خارج الخدمة.

 

مستمرون رغم الحرب

في منتصف عام ٢٠١٢، توقف العمل الثقافي في تلك المراكز بعد تداعي الظروف الأمنية هناك، وهذا الواقع الجديد اضطرنا الى اتخاذ مبنى مستأجر لصالح المديرية، كان مخصصاً للفنون التشكيلية، وبوشرت منه على الفور متابعة العمل الثقافي في المدينة، بالتزامن مع خروج المراكز السبع وعشرين عن الخدمة.. بقي الحال كذلك حتى مطلع أيلول ٢٠١٧، حين تم تحرير المحافظة، وحينها تم تحرير خمسة عشرة مركزاً في خط ريف الشاميّة، لتبقى مراكز خط ريف الجزيرة خارج السيطرة؛ وحينها اتضح لنا حال المراكز المحررة ما حدا بنا لإيجاد مقار بديلة فورية، سواء بالاستئجار أو بالمجان. واليوم، وصل عدد المراكز الفاعلة إلى إثني عشر مركزاً أهمها مراط، والبوليل، والعشارة، والبوكمال، والخريطة والتبني، حيث وضعنا في أولوية عملنا التوزع الجغرافي لهذه المراكز بحيث لا تخلو منطقة من النشاط الثقافي لحين التمكن من استكمال التأهيل.

فقدنا كل شيء

ويضيف العلي: فقدنا كل شيء مع تدمير تنظيم “داعش” للبنية النفسية والمعرفية في المنطقة، وإلغاء الهوية الثقافية، لذلك عمل الإرهاب على تدمير المؤسسات الثقافية بشكل ممنهج وحاقد، واستهدف كامل المكتبات التي كانت تضم عشرات الألوف من العناوين، وجميعها تم حرقها، لذا وضعنا بعين الاعتبار أن أول ماعلينا القيام به إعادة تأهيل المكتبات ما أمكن رغم فقداننا لأمهات الكتب النادرة، والتي من الصعب جداً استعادتها بعدما آلت إلى رماد.

ويضيف العلي في حديثه عن الاستهداف الحاقد للمديرية: هذا التخريب تزامن مع تدمير وحرق كافة آلياتنا بما فيها باص الخدمة والسيارات السياحية؛ واليوم لا تمتلك المديرية سوى ثلاث آليات جميعها بحاجة للصيانة الكاملة، وربما تفوق كلفة صيانتها قيمتها الفعلية. وبالطبع، قمنا بإعداد دراسات كاملة خاصة بالمباني والآليات، ووضعنا الجهات المعنية بكامل التفاصيل.

 

مليار ليرة قيمة المسرح المفقود

الحديث عن الخسائر ومقدارها الفعلي كبير ومعقد، غير أن الخسارة المادية الكبرى كانت في مبنى مسرح المديرية السابق الذي تؤكد الدراسات أن إعادة تأهيله تحتاج إلى مليار ليرة سورية، وفي مبنى المديرية الذي يحتاج إلى ربع مليار ليرة، وفي الآليات والكتب والتجهيزات المسرحية والسينمائية التي تحتاج استعادتها إلى مبالغ مشابهة، علماً أننا قمنا بإجراء دراسات للكلفة المالية لباقي المراكز وأهمها الميادين والبوكمال؛ وفي هذه الدراسات لجأنا إلى مديرية الخدمات الفنية بعدما فقدنا المكتب الهندسي التابع للمديرية مع انعدام وجود مهندسين اختصاصيين ضمن كوادرنا كما كان في السابق.

عملياً – والحديث لمدير الثقافة – يتبع للمديرية من حيث الملكية ثمانية مراكز ثقافية، هي دير الزور وموحسن والميادين وصبيخان والقورية والبوكمال وهجين، وأخيراً البصيرة، فيما تعود ملكية باقي المراكز إلى الإدارة المحلية، لذلك نحن حالياً في طور إعادة تأهيل المراكز التابعة لنا وعلى مراحل وفق ما يتم رصده في الموازنة الاستثمارية أو ميزانية إعادة الإعمار؛ وحالياً بدأنا أولى مراحل إعادة تأهيل مبنى المديرية، وهذه المرحلة تمتد لأربعة أشهر، علماً أننا تأخرنا في المباشرة بحكم تغيير الأسعار المتوالي ما بين أول دراسة تقديرية وآخرها حيث تمّت مراعاة الأسعار بشكل نسبي ومعقول، ومن المفترض أن يكون مبنى المديرية جاهزاً مع حلول عام ٢٠٢٢.

 

فقدان نصف الكادر

بقول العلي: بلغ كادر العمل في المديرية عام ٢٠١١ أكثر من مائة وسبعين موظفاً، وانخفض هذا العدد إلى أقل من ثمانين عام ٢٠٢٠، ما يعني فقدان أكثر من خمسين بالمائة من الكادر، والعدد الحالي للموظفين ضعيف نسبياً قياساً لعدد المراكز العاملة، وفيما لو قسمنا الكادر الحالي على عدد المراكز العاملة لوجدنا أن نصيب كل مركز ضئيل جداً، وهذا ما اضطرنا إلى تقسيم جبهات العمل وتوزيع ومضاعفة المهمات تحقيقاً لاستمراريته، ورغم ذلك فإن نشاطاتنا الثقافية لم تتوقف حتى خلال الحصار المطبق على امتداد ثلاث سنوات، مع بعض التأثير على واقع الحفلات الفنية التي كانت زاهرة قبل الحرب، بينما بقي النشاط الخاص بالمعارض والندوات والفن التشكيلي والملتقيات قائماً بالاعتماد على من بقي في المحافظة خلال سنوات الحصار، بعد اللجوء إلى قاعات مبنى المحافظة وجامعة الفرات؛ وخير دليل على ذلك ما قمنا به لجهة الفن التشكيلي وإقامة أكثر من نُصب تذكاري اعتماداً على الكوادر الموجودة، والكل يعرف حادثة رفع العلم السوري ووضع نصب الخوذة على دوار الموظفين المتاخم للأحياء المحتلة من قبل “داعش”.. حينها تم استهداف الدوار بالعديد من طلقات القناصة ومع ذلك قمنا برفع العلم وما زال وسيبقى مرفوعاً.

 

حَرق ربع مليون كتاب

لا يخفى على أحد أن مقتنيات مكتبة المركز الثقافي احتوت سابقاً على كامل تاريخ دير الزور ضمن عناوين نادرة تم حرقها، ولا يمكن استعادتها اليوم، إضافة لمخطوطات إفرادية ذات قيمة أدبية وتاريخية كبيرة بدليل امتناعنا عن إعارتها خارجياً خوفاً عليها من التلف، إضافة إلى خمسين ألف عنوان، وربما احتوى العنوان الواحد على خمسة أو عشرة مجلدات؛ وبالتالي يمكننا الحديث هنا عن وجود ربع مليون كتاب في مكتبة المركز الثقافي تم حرقها عن عمد من قبل تنظيم داعش الإرهابي، وكل هذه العناوين باتت اليوم من الماضي، إذ انخفض هذا الرقم الكبير إلى ألفي كتاب فقط موجودة في مكتبتنا اليوم، وهذا الرقم الجديد يدل لوحده على الخسارة الكبيرة في اطار الكتب والمخطوطات النادرة.

 

فِرَقُنا الفنية خارج القطر

يتابع العلي: بلغ النشاط المسرحي ذروته عام ٢٠١١ من حيث العدد والنوعية، وخير دلالة على اكتمال النشاط المسرحي قبل الحرب تلك الخصوصية للمهرجانات القائمة ضمن جغرافية المكان، فمهرجان الرحبة يختلف في محتواه عن مهرجان قرقيش، وعن مهرجان ماري، وعن مهرجان العشارة، إضافة إلى التنوع في مضمون النشاطات التي كان يشهدها مسرح مدينة دير الزور، ومنها مهرجان الفراتي ومهرجان المرأة الفراتية ومهرجان الأغنية الجديدة ومهرجانات الأطفال وفرقة الفرات الغنائية، والفرقة التراثية الشعبية؛ وحينها امتدت مشاركاتنا ليس إلى المحافظات السورية فحسب، بل إلى خارج القطر، وهذه دلالة على النجاح والتميز، بينما اليوم كافة فعالياتنا المسرحية بسيطة ومتواضعة قياساً على مسرح بسيط احتوى على كراسي متحركة ومنصة صغيرة لا يمكن لها أن تستقطب سوى النشاطات العادية والبسيطة.. باختصار، لقد حاولت “داعش” طمس الهوية الثقافية والتراثية للمنطقة، وإذا كان التنظيم المذكور نجح من ناحية الموجودات، غير أنه فشل في أن يثنينا عن الاستمرار وبناء البشر وتقديم كل ماهو مطلوب في الإطار الثقافي والمعرفي.

 

معاهد الثقافة الشعبية

مدير المركز الثقافي في مديرية الثقافة، أحمد اليساوي، تحدث عن واقع عمل المركز، وكيف تجاوز ظروف الحرب بالتنسيق مع المديرية كي لا يتوقف العمل الثقافي حتى تحت أسوأ الظروف، غير أنه تطرق إلى مفاصل كثيرة كان توقفها اضطرارياً بعدما تم فقدان مستلزمات العمل، ومن هذه المفاصل معاهد الثقافة الشعبية التي بلغ تعدادها في عموم المحافظة خمسة معاهد اتخذت من المراكز الثقافية سابقاً مقاراً لها لممارسة نشاطاتها الخاصة بالدورات المهنية ودورات محمو الأمية.

يضيف اليساوي: كانت هذه المعاهد فاعلة جدا في إطار نشاطها، وكان من المفترض أن يزيد عددها وفق خطة عمل عام ٢٠١١، ولكن هجمة الإرهاب واستهداف البنية الثقافية أوقف هذا الطموح؛ وقد توزعت معاهد الثقافة الشعبية في كل من مدينة دير الزور وموحسن والميادين والبصيرة والبوكمال.

ويتابع اليساوي: نمتلك خطة عمل جعلت من النشاط الثقافي قائماً، وقد بدأنا بالتوسع والتنوع بعدما كان نشاطاً محدوداً خلال سنوات الحصار وظروف انهمار قذائف الحقد على المناطق المدنية الآمنة. ومع ذلك، فإن المتاح حالياً لا يسمح بعودة كامل ما تم فقدانه إلى ما كان عليه بين يوم وليلة.. الخسائر كبيرة جداً والحكومة لم تقصر بإدراج متطلباتنا البنيوية ضمن خطة الإعمار أو إعادة التأهيل، وإلى أن تنتهي الأعمال الخاصة بتأهيل المراكز والمسارح ودائرة تعليم الكبار والمعاهد الثقافية فإننا متابعون لعملنا ضمن خطة بدأت تتوسع بشكل ملحوظ، ما جعل من النشاط الثقافي حاضراً بقوة رغم الميزانية التي لم تتغير منذ سنوات، غير أننا نتكيّف حالياً بما هو متاح على أمل أن يعود الألق الثقافي إلى سابق عهده في المدينة.