التحدّي والاستجابة
ناظم مهنا
صاحب نظرية «التحدي والاستجابة» هو المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889 – 1975)، وهو فيلسوف تاريخ شجاع ومنصف، ومتحرّر من نزعة المركزية الغربية، مؤمن بتكافؤ الحضارات، وهذه الأسباب – يضاف إليها موقفه الواضح من الصهيونية، ومن مأساة العرب الفلسطينيين – جعلته فيلسوفاً مهمشاً لم ينل ما يستحقه من الاهتمام ومن الترويج في الغرب، وقد ترجمت معظم كتبه إلى اللغة العربية منذ ستينيات القرن الماضي، ومن أشهر كتبه: «تاريخ البشرية»، وعمله الضخم «دراسة في التاريخ» من عشر مجلدات، وكتب عن الحضارة الهلنستية، وعن العصر البيزنطي، وله كتاب «الغرب والعالم».
في كتابه “تاريخ البشرية” حدّد 21 حضارة كبرى، مرت جميعها بمراحل متشابهة من البداية إلى النهاية، ما يشبه إلى حدّ ما نظرية ابن خلدون التاريخية، التي تبدأ من الميلاد فالنمو فالسقوط والتفكك، وإن مرحلة النمو تتشارك فيها عدة مكونات ثقافية، ولكن الأنانية والاستئثار بالسلطة والثروة من قبل العنصر الأقوى هو الذي يؤدي إلى التفكك والسقوط. أما عن التحدي والاستجابة في قانون قيام الحضارات عند توينبي، فيقوم على أن الوحي الإلهي، أو الفكر الذي يسعى إلى القيام بالدور نفسه، هو الذي يمدّ التاريخ بالمعنى، حينما يسعى المجتمع إلى التواصل مع مضمون هذا الوحي أو الفكر وتجسيده، وهذا هو التحدي الذي إذا ما تحقّقت الاستجابة له بنجاح تتحقق الحضارة. ومن هذا المصطلح المنسوب لتوينبي، أنتقل للحديث بمرارة عن التحديات العديدة التي واجهت العرب في العصر الحديث، وعن الرغبة أحياناً في الاستجابة لهذه التحديات، ولكن دون أي نجاح، بل على العكس كنّا ننتقل من إخفاق إلى آخر، ومن نكبة إلى نكبة، وها نحن اليوم نشهد التفكك العظيم، وأعتقد أن قراءة توينبي بتأمل تساعدنا في تلمّس بعض أسباب هذا الانهيار منذ العصور الحديثة.
أبرز احتكاك حديث للعرب مع الأوروبيين بدأ مع حملة نابليون على مصر، برز التحدي الأكبر في وجه النخب العربية، ولاحظنا أشكالاً ضئيلة ومتردّدة من الاستجابة، عند من عرفوا بطلائع النهضويين العرب، أو الجيل الأول منهم، ولعلّ أبرزهم رفاعة الطهطاوي والجيل الذي أتى بعده مباشرة، ومنهم الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده وآخرون.. هؤلاء واجهوا بشجاعة وإقدام تحدي الجهل والتخلف والاستبداد، وتكوين هوية الأمة بالاستفادة من تجربة الأوروبيين، إلا أن أحلام هؤلاء الأعلام تكسّرت على صخور الواقع، وأسدلت الستارة عليها بهزيمة ثورة أحمد عرابي. والجيل الذي أتى بعدهم ومكملاً لهم وقع بالمأساة نفسها وأصيب بخيبة كبرى! حين توهمت بعض النخب العربية أن الأوروبيين سيساعدون في نشر قيم الحرية والمساواة وحقوق الإنسان! ولم يلقوا منهم إلا المؤامرات والاستعمار وتمزيق الشعوب واستعبادها، فلم يتحرّر العرب من الأتراك حتى اجتاحتهم بعض الجيوش الأوروبية (بريطانيا، فرنسا، إيطاليا)، وقسمت بلدانهم وقدّمت فلسطين العربية هدية لليهود بوعد بلفور، عام 1917؛ وهكذا أخفقت الاستجابة الثانية، ثم لاحت الاستجابة الثالثة وماتت في مهدها بعد تأسيس «إسرائيل». و«إسرائيل» بحد ذاتها تشكل تحدياً حقيقياً لمصير العرب، كان من المفترض أن يتوحدوا لمواجهتها، لكن هيهات! لقد هزموا هزيمة نكراء في حرب 1948، ويقال إن عدد الجيوش العربية التي أعدّت لهذه الحرب لا تتجاوز 12000 عسكري بقيادات متناحرة وغير مؤهلة، مع التقدير الكبير للبطولات والتضحيات. وحتى اليوم، رغم تفاقم التحديات، لا تزال الاستجابة منعدمة وتحت الصفر، لا بل واقع العرب أدنى حالاً! مما يجعل أي حديث عن الاستجابة للتحدي الذي يواجه العرب، أمراً يدعو للتشاؤم، لولا بقية من مقاومين يقفون كالمشاعل في قلب الظلام.