فيلم “لن ترى” في ندوة في النادي السينمائي
“زدني بفرط الحب فيك تحيّرا وارحم حشى بلظى هواك تسعرا”، إحدى قصائد ابن الفارض التي رافقت البروفيسور الفرنسي جان. إيف. لوبيتال خلال حياته، كما رافقته في فيلمه التسجيلي التوثيقي السوري “لن ترى” (إخراج أحمد عرفات) الذي ناقشته مؤسسة أحفاد عشتار –النادي السينمائي- بمشاركة د. عدنان عزوز ومخرج الفيلم أحمد عرفات ود. أيسر ميداني مديرة مؤسسة أحفاد عشتار في المركز الثقافي العربي –أبو رمانة-.
الفيلسوف والمترجم الصوفي لوبيتال الذي بحث في طرق الصوفية وآمن بأنه لا فرق بين الأديان، وعاش طقوس الدين الإسلامي في دمشق ومدن عدة، ارتبط بعلاقة قوية بالمكان فأصبحت دمشق موطنه بعد وطنه الأم فرنسا، واختار البقاء فيها منذ خمسة وثلاثين عاماً.
الملاح والحرب
بدأ الفيلم بترنيمة “القديسة أنّا اعيدي لي ابني” وأنشودة قصة الملاح الذي لا يترك سفينته بالعاصفة برمزية إلى الحرب الإرهابية على سورية وخيار الأغلبية بالبقاء فيها ومواجهة الحرب.
بُني الفيلم بجمالية التشبيك بين اللقاء مع لوبيتال وحركة الكاميرا في أحياء دمشق القديمة وتراثها الثري المادي واللامادي ومعالمها الأثرية والحضارية والدينية، فمن قوس باب شرقي إلى حارات دمشق القديمة ورحاب الجامع الأموي ومنزل لوبيتال، وعلى وقع نغمات العود انتقلت الكاميرا لتصوير نماذج من المهن التقليدية وطقوس التراث المرتبط بالصوفية، فصوّرت رقص المولوية وجلسات الذكر مع نشيد خير البرية. كما تناول الفيلم ومضات من الحياة الاجتماعية وتبادل الزيارات مع العائلات الصديقة للوبيتال، وبعيداً عن دمشق أفردت مساحة لتنقلات لوبيتال في معالم معلولا.
تغييرات الحرب
أما اللقاء التسجيلي معه فاستعاد سيرة حياته منذ طفولته وتربيته الدينية ودراسته للفلسفة ثم علم اللاهوت وتعلمه اللغة اللاتينية وتخطيطه ليصبح رجل دين -خوري- إلا أن المصادفة غيّرت طريقه ومسار حياته، وخلال اتفاقية التبادل الثقافي اقترح سفره إلى الهند فتمّ تعيينه بالسنغال وهناك تعمّق بالدين الإسلامي، ثم عاد إلى باريس ودرس علوم اللغة العربية، وتابع في لبنان وحصل على الدكتوراه في الأدب العربي، ثم جاء إلى دمشق وتعرف عن قرب إلى علماء الدين الإسلامي وعاش الطقوس الإسلامية بحضوره جلسات الذكر ومجالس العلم حتى إنه ألقى كلمة في أحد المساجد بعد صلاة الجمعة.
توقف لوبيتال عند ما تتميّز به سورية من تعدّد الأديان والطوائف، لكن لا أحد يشعر بالتعصب، ودمشق جعلته يبحر بالصوفية وبالحب الإلهي وبما كتبه ابن الفارض وابن عربي، وقد ساعدته خبرته بالبحث بطرق الصوفية والتساؤلات الوجودية. وتابع لوبيتال عن المنعطف بحياته بزياراته المتعددة لموريتانيا وانتقاله من مخيم إلى آخر، ومعايشته الصوفية هناك وشظف العيش.
أما الحرب الإرهابية فكانت موضع حديثه أيضاً، إذ استحضر وقع القذائف والاشتباكات والتهجير، فتحدث عن سنوات الحرب وكيف لمس خوف الناس، وقد قدّم الكثير من المساعدات للمهجرين والمحتاجين، واستضاف عائلة مؤلفة من ستة عشر شخصاً في منزله طيلة ستة أشهر حتى تدبرت العائلة أمرها. واختُتم الفيلم بقراءته قصيدة لابن الفارض وبيّن خلاصة تجربته بقوله “الحب ديني وإيماني”.
تقديره للعلاقات الإنسانية
أشارت د. أيسر ميداني إلى أن موضوع الفيلم صعب، ويرتبط بمفاهيم أساسية وبتاريخنا وأدبنا وبالمنطقيات التي استنبطناها من الفيلم الغني جداً بالأفكار والمكثف، وبيّنت رؤية لوبيتال العميقة للحياة، وتقديره للعلاقات الإنسانية، وتطرقه إلى الأمور التي تغيّرت خلال سنوات الحرب بين الناس لكنه لم يتغير فساند المهجّرين ودخلوا منزله.
ترجمة غير حرفية
وتحدث د. عدنان عزوز عن الفيلم الذي تمّ العمل عليه بشكل احترافي ابتداءً من الموسيقا التصويرية إلى أبيات الشعر إلى حارات دمشق، متوقفاً عند الأنشودة الفرنسية قصة الملاح التي تمسّ كل سوري وتصف البحار الذي ذهب إلى البحر ولم يعد، وإجابة القديسة أنّا الأم بأنها سترى ابنها في الفردوس، ثم تابع عن تعريف مفهوم الصوفية ليصل إلى أن الصوفي شخص محب للحكمة دخل حب الله إلى قلبه فتجرد عن الكراهية وتخلص من أدران الدنيا، وقد أثبت لوبيتال أنه صوفي، رغم تصريحه بأنه لم يصل إلى درجة الصوفيين، وذلك بأسلوب حياته الذي يبتعد عن التكلف والحياة المنعمة، كما قام بترجمة قصائد ابن الفارض سلطان العاشقين الذي يمتاز شعره بالامتزاج بين الحب الإنساني والإلهي، ومن بيت الشعر “زدني بفرط الحب” يصل إلى حقيقة بأنك لن ترى الله عزّ وجل، وهذا مأخوذ من القرآن الكريم، موضحاً الصعوبة بالترجمة كون الترجمة الحرفية للمفردات تفقدها معناها الروحي، فلجأ لوبيتال إلى المتخصصين باللغة العربية واستعان بهم لشرح معاني المفردات لإيجاد مفردات مناسبة بعيداً عن البعد الأول بمستوى الترجمة الحرفية.
أما مخرج الفيلم أحمد عرفات فتحدث عن الصداقة التي ربطته بلوبيتال منذ سبعة عشر عاماً، وعن مراحل صناعة الفيلم.
ملده شويكاني