في رحاب الأرسوزي
عبد الكريم النّاعم
دخل صديقي وفور جلوسه، وكعادته، مطّ رقبته باتّجاه كتاب بين يدي، وفور معرفة عنوان الكتاب قال مستغرباً: “أف.. أف.. أف.. ما هذا؟! الأرسوزي؟! هل هناك مَن يقرأ مثل هذا الكتاب الآن”؟!!
قلت غير مُفاجَأ بما سمعت: “هذا جزء من ستة أجزاء، طُبعتْ كلّها في مطابع الإدارة السياسيّة للجيش والقوّات المسلّحة، وفيها كلّ ما كتبه الأرسوزي، منذ بدأ النضال في لواء اسكندرونة، في مطلع القرن العشرين، وما أدلى به من أحاديث”،..
قاطعني: “ألا تظنّ أنّ ما كُتب في تلك الأيام قد تجاوزه الزمن”؟
قلت: “بعضه كان متعلّقا بمرحلة معيَّنَة، وبعضه راسخ رسوخ الحقائق، فالآني لحق بالآني، وما عداه بقي كما تبقى الحقائق الراسخة، لاسيّما ما له علاقة بفلسفة “فقه اللغة” الذي سافر في أمدائه الفيلسوف زكي الأرسوزي، ليكون إحدى ركائزه في تعميق فهم وحدة هذه الأمّة، وديمقراطيتها، واشتراكيتها، وأوقف حياته على النضال من أجل ذلك، فهو لم يتزوّج، وعانى الكثير الكثير من جراء مواقفه الصلبة في الدفاع عن حقيقته، وسأذكر لك “نتفة” من هذا النضال، فبسبب من معارضته لمشاريع الاحتلال الفرنسي الذي أعقب احتلال الأتراك، سيّروه برفقة دوية درَك، مشياً على الأقدام من إنطاكية إلى “الحفّة”، إلى تلّكلخ،
وفي مرّة ثانية، وكان قد نزح إلى دمشق، رافقتْه دوريّة مماثلة من دمشق، إلى حمص، إلى اللاذقيّة، إلى دير الزور، وهو يمشي على قدميه، وخدَم الفرنسي يركبون الخيول، فلم يضعف، ولم ينكسر وهو الذي نشأ نشأة مرفّهة. لقد كان الفيلسوف الأرسوزي معلّماً، وقائداً ومناضلاً، ومؤرِّخاً بشكل جزئي للمرحلة التي عاشها، فقد ذكر بعض الأحداث التي لا يعرفها إلاّ قلّة من أبناء أجيالنا، فهو يذكر على سبيل المثال أنّ “الكتلة الوطنيّة” التي سلّمها المحتلّ الفرنسي السلطة، إثر النضال الصلب للشعب السوري ضد الوجود الفرنسي، الذي لم يكد يعرف الراحة في احتلاله.. هذه الكتلة تهاونت في تسليم كيليكيا للأتراك، وتراختْ على جريمة سلخ لواء اسكندرون، بل يرى الأرسوزي أنّها تواطأت مع المحتل على تسليمه لتركيّا،
لقد كان الأرسوزي وحدويّاً حتى النّخاع، وحدويّاً وديمقراطياً لا يساوم، واشتراكيّاً لا يتنازل، يذكر في بعض كتاباته أن الملك فيصل الأول، الذي صار ملكاً على العراق بعد معركة ميسلون، كان في أعماقه توّاقاً لقيام ولو وحدة جزئيّة بين أيّ قطرين متجاورين، ولذا فقد عرض على كمال أتاتورك بعد تسلّمه السلطة في تركيّا أن يتنازل العراق عن نفطه لتركيّا مقابل موافقتها على قيام وحدة بين العراق وسوريّة، فرفض أتاتورك ذلك، ربّما لأنّه أدرك أنّ وحدة كهذه لن تترك لدول الجوار أن تتصرّف على هواها فيما يتعلّق بالشأن العربي، ويقول المفكر الأرسوزي أنّ الملك فيصل لم يتخلّ عن هذه الرغبة، فعاد إلى طرحها في زيارة رسميّة لفرنسا، فرُفِض طلبه، ويقول إنّه وُجد بعد خمسة عشر يوماُ، ميتاً بالسمّ في أحد فنادق سويسرا، موحياً أنّه دفع حياته ثمناً لذلك الطلب”.
قال: “هل تعتقد أنّ ثمّة بين أجيالنا مَن يعود إلى هذه المنابع”؟
قلت: “لستُ متفائلا إلى هذا الحدّ، ولكنّني أعلم أنّ الجواهر مهما علاها من الغبار والتراب، وطُمرت في الأرض فإنّها لا تفقد قيمتها الجوهريّة، وستظلّ هاجعة في مطْمَرها حتى يُقيَّض لها زمن تُكتشف فيها، فتُنظَّف، وتُخلَّص ممّا علق بها لتستعيد ألقها”.
قال: “أرجّح أن تفاؤلك أكبر من معطى الواقع”.
قلت: ربّما، ولكنّني شديد الإيمان أنْ لا مستقبَل للعرب إلاّ في صيغة من صيغ الوحدة…
aaalnaem@gmail.com