النص الغامض للجامع الأموي بالشهباء.. متحف ومكتبة وابتهالات أزمنة
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
ما الذي يخفيه الجامع الأموي أو “الجامع الكبير” أو “جامع سيدنا زكريا” بمدينة حلب الشهباء؟ ما أسرار جمالياته المتفردة؟ وما أهم فنياته المتناغمة مع بنائه المعماري؟
تشع القيمة الروحية مثل الطمأنينة والأمان والسلام في الجامع الأموي بحلب رغم الكوارث الطبيعية، من زلازل أدت لانهيار واجهته الغربية، وحرائق عدائية، ودمار استعماري حاقد مرّ عليه، ودمار إرهابي ظلامي أصابه مع العشرية الأخيرة التي عاشتها سوريتنا الحبيبة.
ورغم هذا التدمير الممنهج لهذه الأيقونة الأثرية التراثية المحلية، العربية، الإسلامية، والعالمية، إلاّ أن الجامع يمنحك بفضائه الأفقي والعمودي اتساعاً روحياً يستعيد دورته المتألقة مع عملية التأهيل والترميم.
إضافات متداخلة لذاكرة عالمية
يشبه الجامع الأموي بحلب الجامع الأموي بدمشق بعدة مشتركات منها مخططه وطرازه وبعض تزييناته وفسيفسائه وزخارفه ونقوشه وتشكيلاته الخطية والحفرية وتفاصيله الأخرى، إضافة إلى أنه كان مركزاً للتثقيف والمعارف والعلوم الدينية والطبيعية.
بني في العصر الأموي، عام 100 هجرية، في حي الجلوم في سويقة حاتم، مقابل المدرسة الحلوية، وله أربعة أبواب وأربع واجهات، نجد في القبلية منها ضريح سيدنا زكريا، وأرضية فناء الجامع الحجرية بلونيها الأبيض والأسود وأشكالها الهندسية، وفي الفناء نافورتان مقبّبتان للوضوء، ومزولتان شمسيتان، ترممان الآن، واحدة معلقة على جدار الرواق الشمالي من حجر صلد، تضررت في الحرب كثيراً، وساعة ثانية عمودية عبارة عن اسطرلاب متقدم تقنياً جداً، وتتسم ممراته بقناطر تتوج الأعمدة، بينما زُخرف منبره بالرقش العربي الهندسي المركب من خشب الأبنوس المنزل بالعاج والنحاس البراق، إضافة إلى سدة الحرم الخشبية الفريدة، ومحرابه المميز، وهذا ما جعله أنموذجاً معمارياً تناغم مع الإضافات التي تمت خلال العصور والأزمنة التي توالت عليه، فأصبح لوحة فنية لذاكرة العصور التأريخية العربية الإسلامية والعالمية تتوافد إليها قوافل السيّاح من كافة أرجاء الأرض لاكتشاف نصها الغامض.
بصمات بأبعاد ثنائية وثلاثية
وعن أسرار هذا الجامع وشبكته العلائقية بين الفنون الجمالية والتأريخية واللحظة المعاصرة للجامع الأموي بحلب، قال الدكتور صخر علبي، مدير الآثار والمتاحف بحلب: برأيي، التأريخ غير منفصل عن الفنيات والجماليات، كما أنني لا أفصل القيمة الاجتماعية عن القيمة التأريخية، خصوصاً، عندما يبدأ الحديث عن الجامع الأموي، وهو مبنى عمره 1300 عام، فهذا يعني مرور عصور وعهود وحضارات مختلفة، وجميعها تركت آثاراً على المكان، مثل الواجهات، الأرضيات، الزخارف، المنمنمات، وبكل الأبعاد الثنائية والثلاثية وطُرز البناء.
واسترسل: ومن له خيرة بتأريخ العمارة يلاحظ أنه لم يبق من الجامع الأموي غير المسقط الأفقي، أي المخطط الأفقي، وهو بناء مفتوح على ساحة داخلية، ومئذنته مربعة ومختلفة ومتفردة، وما فيه من بصمات ترك أثره عبْر الزمن، وأكبر ما يوجد فيه من بصمات تعود للعهد العثماني نتيجة رسوخه 400 سنة.
وأضاف: الواجهة الخارجية ليست الأصل، والساحة جاءت نتيجة تخطيط المدن منذ 1950 للميلاد، لإبراز معالم الجامع وإنشاء المناسب لتخطيط حلب في ذاك الوقت، وكلف بها المهندس د.عبد المنعم حربلي الذي اجتهد وأنجز الواجهة، فحاول محاكاة الواجهة الخارجية مع الداخلية، فأصبحت جزءاً من الجامع، ودخلت في المشهد البصري والتكويني والذاكرة العامة.
وأوضح د.علبي: داخل الجامع بصمات أخرى تعكس عصراً وآخر، ومنها الخطوط العثمانية – مدخل القبلية والحجازية، وهناك نصوص حتى داخل القبلية، وعند المحراب، ومقام سيدنا زكريا عليه السلام؛ ومن خلال دراستي للعمارة، فإن المقام أو المزار ليس بالضرورة أن يكون مكاناً لوجود الرفات، بل هو مكان رمزي غالباً، ويعتقد أهالي حلب – كما شعوب الأرض – أن في المقامات وأهلها كرامات، وبالمقابل، في الجامع الأموي بدمشق، هناك مقام يحيى بن زكريا عليهما السلام.
لماذا ثلاثة محاريب؟
وتابع د. علبي: الواجهة الشرقية في الجامع الأموي بحلب غير الواجهة الغربية التي دمرها أحد الزلازل، وهناك الكثير من الأمور تفتتح أسئلة كثيرة، مثلاً: لماذا هناك 3 محاريب وليس محراباً واحداً داخل الواجهة القبلية؟ وأكمل: وهكذا يتداخل التأريخ مع البعد الروحي والفني والاجتماعي، فلربما هناك طرق طرق صوفية وغير صوفية، وقد يكون المحراب الأوسط مخصصاً لصلوات يوم الجمعة مثلاً، وقد يكون المحراب الأيمن مخصصاً لصلوات الفجر، فهل هناك من يعرف الإجابة الدقيقة؟ علماً أنني ذات مرة، دخلت إلى مركز إسلامي في فيينا، يعتبر أحد معالم العمارة، وكان هناك محرابان مختلفان، ومجموعتان تصليان معاً، لكن، كلّ منها على طريقتها.
لماذا نطمس الحقائق؟
وتابع د. علبي: أذكر أن الباحث الفرنسي جان سوفاجيه عمل أثناء الاحتلال الفرنسي لسورية مسخراً جميع الطاقات الحلبية معه، ويقول: “أنا أفترض أن هذا السوق الحلبي أصله بيزنطي، وذاك روماني!!”.. هو لم يؤكد، بل افترض، بينما نحن أخذنا افتراضه حقيقة مطلقة، ولم ندرس ونبحث ونستقصي، بل ساهمنا في طمس الحقائق.. نحن لا ندرس ونبحث، بل نأخذ عن الآخرين.
مجمع أثري استقصائي
لحظتَها، سألت: ماذا لو اقترحت أن يكون لدينا مجمع أثري توثيقي استقصائي؟
أجابني: الكادر الصغير في مديرية الآثار لا يتناسب مع مسؤولياتها والاهتمام باللغة الأثرية وما قبل التأريخ وترميم القطع الأثرية، كما أنه ينقصنا الكثير من الكوادر المختصة في عملية التوثيق والبحث والاستقصاء.. نحن نحتاج لاكتشاف آثارنا من جديد، لأنها “الهوية”، والهوية هي التي يعمل عليها العالم، بينما نحن ما زلنا نردد ما يقوله المستشرقون، وأنا لا ألوم المستشرقين لأن لهم ما لهم، وعليهم ما عليهم، أمّا نحن فنحتاج لدراسة حضارتنا لا سيما في كليات العمارة، لأن طالبنا يعرف الكثير عن الحضارات الأخرى، مثل الفرعونية والهلنستية، ولا يعرف عن مدينته حلب، ووطنه سورية كما يجب، لأنه لم يدرسها!! لقد درست العمارة بألمانيا، وهناك يهتمون بتأريخ العمارة عالمياً، لكن الطالب يعرف تراث ألمانيا بشكل بديهي وأصيل، إضافة إلى مدارس عليا لتقوية ساعات العملي.
كلّنا مسؤول
وتساءل د.علبي: من أين نبدأ؟ مجيباً: استوردنا مناهجنا بكافة المجالات، ومنها الطب والهندسة والقانون من أوروبا، لكننا لم نعمل على ما يناسب واقعنا ونبدع مناهجنا الخاصة، نحن نستهلك ونرسخ ما استهلكناه دون مناقشة ومحاورة ونقد وابتكار، والسؤال الهام: ماذا أريد من خريج الجامعات السورية؟ يدرس مجال الهندسة الإنشائية في العالم، لكن لا أحد يدرّسه كيف يرمم مئذنة الجامع الأموي مثلاً، ولا يعرف كيف يهندس إنارة الجامع أو القلعة، إنه موضوع جماعي لأن الجميع مسؤول.. كلنا مسؤول وأنا أولهم.
تشكيلات خطية وجداريات زخرفية
أمّا عن الفنون البصرية للجامع، فرأى د. علبي أنها متنوعة، منها تشكيلات خطية ولوحات فنية مكتوبة باللغة العربية وبالطريقة العثمانية؛ وهذه التشكيلات، سواء كانت منحوتة بالحجر أو مكتوبة على النحاس، مؤلفة من آيات قرآنية، ومن أبيات شعرية توثيقية غالباً، فمثلاً على باب الحجازية مديح للسلطان عبد الحميد، وتتميز كتابات الواجهات بتحديدها لأحداث وتواريخ معينة، بينما داخل الواجهة القبلية وفوق المحراب نقرأ آية (كلما دخل عليها زكريا المحراب)، بينما مئذنة الجامع الأموي فتتميز بكتابة آيات قرآنية تلتف حول المئذنة، وموزعة إلى أربعة صفوف، وبين الصف المكتوب والآخر 10 صفوف فارغة.
محاولة اكتشاف
وأخبرنا: خلال احتلال الجامع في فترات متباعدة بين كرّ وفرّ، رأينا حفرة كبيرة في أرضية الجامع، وقبل العمل على تأهيلها، عملنا تنقيباً أثرياً فيها على عمق 6 أمتار، لكننا لم نجد شيئاً، فردمناها وأعدنا تبليطها وتجديدها.. إننا نحاول استغلال أي شيء للاكتشاف والبحث.
ترميم ومتحف ومكتبة
وأكد: هذا الجامع وخلال العقود الكثيرة التي مرت عليه كانت هناك إضافات وثغرات، وأثناء عملية الترميم نحاول أن نعيده إلى الأصل. لقد دارت حرب شعواء، حاولنا ترميم جميع الآثار، وهناك أحجار من الجامع توثق لهذه الحرب ستكون في متحف الجامع في الهواء الطلق، وآخر تحت الأرض، ويضم مكتبة، ضمن فراغاتها ستكون هناك أحجار وأخشاب وغيرها من هذه المرحلة توثق لما جرى في هذه الأحداث للجامع الأموي. وأذكر أن الجامع حظي بمكرمة من الحكومة السورية من أجل ترميمه الأخير قبل الحرب طبعاً، فتم تحويل المرآب إلى مكتبة، لكن تهدّم معظمه بالقذائف، وسيصبح مكتبة، أما الساحة التي فوق المكتبة فستصبح متحفاً للجامع يضم كل ما يتعلق بتأريخ الجامع الوثائقي.
واختتم د. علبي: هناك فريق عمل كامل وجنود مجهولون وحرفيون وصنّاع ومهندسون وخريجو معاهد مختصة يعملون معنا في الترميم وإعادة التأهيل والبناء والإعمار.
ابتهالات الأزمنة
وبدوره، أكد المهندس أحمد الغريب مدير قلعة حلب: هذا الجامع أحد أهم معالم حلب القديمة وأكبر جوامعها، فهو مقصدُ الزائرين والمهتمين بتأريخِ بلدٍ أَتقنَ بِناء عمارته، ولسكان حلب ارتباطٌ وثيق به بصلاتهم اليومية، وزيارتهم لمكانٍ يلتمسون فيه البركة من خلال صَدَقَةٍ أو دُعاءٍ وذِكْرٍ يُلقى من قبل مكفوفي الجامع.
وعن مساره التأريخي، أضاف: يعود تاريخ بنائه إلى العصر الأموي زمن سليمان بن عبد الملك عام 714 – 717 ميلادية. قائمٌ على مخططٍ مستطيل (105 × 78 متراً) وفق التصميم العام للمساجد الأموية، على نمط الجامع الأموي في دمشق، يتألف من قبلية مستطيلة في الجهة الجنوبية، وفناء مستطيل محاط بثلاثة أروقة تمتد من الشرق إلى الغرب، وتم إكساؤه بزخارف رخامية وخشبية متباينة الأشكال في الأبواب والنوافذ.
لوحة حزينة
وأضاف: تعرض الجامع الأموي للحريق أكثر من مرة سيما زمن نقفور فوكاس وتيمورلنك، الأمر الذي أدى إلى تشويهه وفقدان سقفه لا سيما للحرم القبلي ومن بعده الرواق، ثم أعيد ترميمه فاستبدل بقبوٍ متقاطع، وذلك في بداية العصر المملوكي، وحالياً يرمم بعد الحرب الكونية على سورية.
تفاصيل عمرانية
وعن جماليات البناء، قال: القبلية مستطيلة الشكل واسعة مسقوفة بأقبية متقاطعة، يقسمها 80 عموداً إلى ثلاثة أروقة تمتد من الشرق إلى الغرب، تميزت بالمنبر الخشبي المصنوع من خشب البلوط والأبنوس المحفور العائد إلى العصر المملوكي – زمن الملك محمد بن قلاوون – وفقاً للنقش الكتابي المحفور. يتكون المنبر من باب بدرفتين نقشت عليه آيات قرآنية، وزخرف أعلاه بالمقرنصات، وجانبا المنبر عبارة عن زخرفة خشبية على شكل خط عربي نجمية مرصعة بالعاج والصدف والفضة والنحاس، ويتميز سقف مقعد الخطيب بقبة مزخرفة. ويلي المنبر في وسط جدار القبلية المحراب الكبير المصنع من الحجارة المصقولة الصفراء – من بعادين – في شرقه حُجرة تضم تابوتاً خشبياً مغطى بالمخمل المزركش بالقصب الفضي عليه آيات قرآنية، كسيت الحجرة ببلاطات من الخزف الملون (القاشاني) وهي مغلقة بقضبانٍ من النحاس سميت بمزار سيدنا زكريا، بينما الواجهة الخارجية للقبلية مزخرفة وتتألف من خمسة عشر قوساً مدبباً، القوس الأوسط هو مدخل القبلية الأساسي المزينة بالأحجار الرخامية المتداخلة باللونين الأبيض والأسود تعلوها الصنج المزررة الملونة ونص يؤرخ تعديلها عام 1630 مـ.
تشابكات هندسية ملونة
وأكد الغريب على فرادة الفناء كونه متنوع الحيوية، فأرضيته فرشت، عام 1632 مـ، بالرخام الأبيض والأسود والأصفر بأشكالٍ متشابكة هندسية، ويضم قبة الوضوء وهي من آثار الفترة الحمدانية، تقوم على أعمدة تحوي جرناً رخامياً، ومزولة شمسية من آثار الفترة العثمانية عام 1882 مـ، وهي عبارة عن قرص رخامي مغطى بقبة من النحاس ترتكز على عمود حجري في صحن الجامع لمعرفة وقت دخول الصلاة والحسابات الفلكية.
ذاكرة المئذنة المربعة
واختتم الغريب: بدأ بناء المئذنة عام 1089 مـ، في عهد السلطان ملك شاه بن السلطان ألب أرسلان، وتقع في الزاوية الشمالية الغربية، وشكلها مربع على أساسات حجرية، تميزت بغنى زخارفها من أشرطة كتابية كفاصل بين مستوياتها جاء فيها اسم المهندس وأقواس مفصصة مصمتة ومقرنصات وسَقفٍ مع مظلة خشبية تعلوها قبة صغيرة وهلال، وللجامع أربعة مداخل من كافة الجهات على شكل بوابات، البوابة الشمالية هي الرئيسة، وله الكثير من الأوقاف التي تشمل أراضٍ ودوراً ودكاكين، فجميع الأسواق المحيطة به وقفٌ عليه.