رائحة الكتب.. البعيدة
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
يقول نزار قباني إنهم يريدون أن يفتحوا العالم وهم عاجزون عن فتح كتاب!!
ويقول عباس العقاد: اقرأ كتاباً جيداً ثلاث مرات أنفع لك من أن تقرأ ثلاثة كتب جيدة.
كنتُ أقول لطلّابي: إذا أقلقَكم كتاب، اتركوه.. هذا الكتابُ لم يكتب لكم.. “القراءة يجب أن تكونَ شكلاً من أشكالِ السّعادة”، هذه كلمات خورخي لويس بورخيس.
لا أدري لم تزاحمت كل المقولات التي تتعلق بالكتب وأهمية المطالعة والقراءة في ذاكرتي، ورحت أستعرض هذه الكلمات وأنا أقوم بممارسة الطقس السنوي الأزلي والمستمر أبداً في المنازل السورية: طقس تجليد الكتب وتغليفها.. يتحلق الأطفال حول الأب والأم بشغف، ويستلمون قطعة من قلب وروح يتمنون لها صحبة سعيدة برفقتهم، يحملونها على عاتقهم ويحملون آمالنا بصنع مستقبل يليق بهم.
رحت استرجع ذكرياتنا الخام، حين كنا صغاراً وكيف علقت في ذاكرتنا كل تفاصيل الكتب المدرسية، وطقوس استلامها من أمين المكتبة في المدرسة، وأن لرائحة الكتب طقس يأبى السقوط من ذاكرتنا، يدافع عن عرشه هناك متربعاً بكل كبرياء وعنجهية، لا انفكاك من روح تلك اللحظات.. كان التغليف بورق التجليد الكحلي، ومن ثم وضع لصاقة الاسم والمادة، ومن ثم إضافة طبقة من التجليد الشفاف، ومهارة ثني الزاوية، والالتفاف حول مساحات المستطيلات المتنوعة للدفاتر والكتب.. كنا نمارس رياضيات الحساب وفن حساب الزوايا وكميات اللاصق المناسبة لها.
لرائحة الكتب في المراحل المتقدمة من عمرنا أثناء الجامعة مثلاً نكهة خاصة مميزة ومغايرة، وكان من أحب تلك الكتب لقلبي “تاريخ فن العمارة” و”تاريخ الحضارات والأساطير”. كان التعلق بالحكاية نفسه ذاك التعلق بقصص كتب القراءة الأولى في المرحلة الابتدائية، يسحر ويأسر وينقلك لعالم من المتعة اللامحدودة.
قبل الرحيل، في 24 كانون الثاني 2020، حدث لي موقف مع أحد أهم أساتذتي في كلية الفنون الجميلة بدمشق: إنه هو، لا ريب، أستاذنا المحاضر بتاريخ الفنون والحضارات والأساطير، الأستاذ بشير زهدي – قلتها في نفسي – وقطعت الطريق جرياً نحوه لأتأبط ذراعه لمساعدته في مشيه البطيء المنهك، حاولت، مراراً وتكراراً، وفشلت، أثناء سيرنا هذا، ونحن يداً بيد، أن أذكّره بنفسي، وبأني أحد طلابه منذ سنوات، وبأني صاحب الخريطة لمدينة دمشق القديمة المرسومة بطريقة كرتونية، حيث كنت أزوره في المتحف لأطلعه على المخططات الأولية والرسوم، ولأستزيد من عبق التاريخ ومن تفاصيل كل حجر في كل بناء في تلك المدينة.. تنكر الزمن لنا، وضاعت في غياهب التاريخ ذكرياتنا مع أساتذة أفاضل، ومن المخجل ألا نتمكن من استعادة ألق ذاك العهد، عهد التعلم الحقيقي ورغبتنا في ممارسة طقوس التعلم كما يجب.
مجلات وكتب موجهة للأطفال موضوعة على رفوف من شبك معدني أمام بعض الأكشاك، ذاوية أطرافها، وقد أصابتها بعض صفرة، وكأني بها عليلة الثنايا مريضة من الإهمال!! كيف لا، وقد أنتجت لتحملها يد طفل، وتمدها بنسغ الحياة من جراء تقليب الصفحات والعبث بالتفاصيل داخل القصص بمرح، والكتابة هنا، والتلوين هناك؟! مالذي جرى للمملكة السحرية للكتاب والقصة والمجلة؟! ومالذي يجعلنا عاجزين كمجتمع ووزارات وهيئات ومنابر على توريث حب الكتاب والمجلة والقصة لأطفالنا. كانت مجلتا “أسامة” و”سامر” فقط هما ما يصل إلى ريفنا البعيد الموغل في البساطة والشغف، فتراني انتظر أمام مكتبة العم أبي سعيد، منذ الصباح، ليصل ساعي الكتب وحامل الأحلام ويوزع له حصته من تلك المجلات، فأشتري حصتي وأنطلق أطوي الدرب طياً، وكم من مرة شردت وأنا أتصفح المجلة فضولاً، ولا أنتظر حتى الوصول للمنزل فأقف عند مصطبة بيت خالي، هنيهة، وعند مصطبة بيت عمتي، هنيهة أخرى، وعند دكان جارنا الحداد أبو بسام، هنيهات، فأصل المنزل وقد أخذت وجبة كاملة لخطة القراءة القادمة، فأعرف حينها كيف أوزع القصص حسب الأولويات، وكيف أترك الحزازير والتسالي إلى حين آخر.. كان لكل واحد منا – أحبّ المطالعة – خطة ومغامرة وسباقا يبدأ من لحظة إمساك القصة أو المجلة، ولا ينتهي عند القراءة العاشرة للمحتوى.
في لقاء أخير تكرر قبل رحيله، صادفت الأستاذ المعلم بشير زهدي في صحبة طيبة من أصدقائه في إحدى مكتبات سوق الكتب في الحلبوني. وقتها أطلعته على الخريطة البانورامية المرسومة لدمشق القديمة، فتأملها بحب، وراح يتذكر تفاصيل العمل عليها، ونصائحه لي أثناء تنفيذها. ابتسمت بعد اللقاء لعودة النشاط والحيوية لذاكرة معلمي، وبأنني أستطيع أن أعول يوماً على توريث حب وشغف العلم لمن يريد من أبنائنا.