ما يسمى “قانون قيصر”.. وكأنه لم يكن!!
فجأة وكأن المنطقة تسلك مسارات مختلفة: تسييل خطوط الغاز والشحن، زيارات ولقاءات أمنية وعسكرية رفيعة المستوى، حلحلات أمنية متسارعة في أكثر من موقع، وتحذيرات معلنة ومبطنة لاستيعاب الدرس – الدروس الأفغانية، سورياً. ولربما، أسابيع قصيرة ونستفيق على “قانون قيصر” وكأنه لم يكن!! وبالطبع، لن تكون هناك أي تفاهمات، أو اتفاقات، أو تسويات، فوق الطاولة أو تحت الطاولة، ولربما لن تكون هناك ضرورة لذلك، فالأمر ببساطة هو أن الولايات المتحدة الأمريكية تعبت، وأرهقت، واستنزفت، بفعل ما يزيد عن عشر سنوات من السياسات المجنونة، والمدمرة، والعبثية، والفاشلة، بل والتي “أشبعت” فشلاً، دون أن تحصد بالمقابل أي شيء سوى السمعة الملوثة، وإرضاء النهم التوسعي الإجرامي لحلفاء إقليميين متسلطين لا يفقهون من السياسة إلا تصدير أزماتهم الداخلية وافتعال المشاكل والاضطرابات خارج حدودهم.. ولن يكون مثل هذا الانفراج حصيلة معارك وصراعات دبلوماسية، ولا نتيجة مواجهات قاسية وشرسة في المنابر الدولية، سيكون أقرب إلى أن يكون ثمرة طبيعية جرى انتظارها بهدوء حتى تنضج، ثمرة “صبر استراتيجي”، وأعصاب فولاذية، في مواجهة التكالب الفظيع لقطيع ضار قلما اجتمع على فريسة بمثل ذلك الاستعداد والجهوزية والقابلية للتوحش.. ولكن “الفريسة”، ببساطة، رفضت العنف العاري والهمجية، واختارت أن تصمد..
إنه علم الاعتراف بالحقائق والنزول عند معادلاته وقوانينه الإكراهية والحتمية؛ وسواء خضع الأمر لاعتبارات أو مصالح أو سياسيات، أم لأهواء وأمزجة شخصية، فإن المتعارف عليه بعد الآن، وما لم يدركه بعد جهابذة التآمر – للأسف – هو أن أي محاولة للاعتداء على سورية، أو النيل منها، سوف تجر معها، لا محالة، طوفاناً من التداعيات اللامتناهية، المباشرة وغير المباشرة، القريبة والبعيدة، المنظورة وغير المرئية، بحيث تجرف بلاد الشام كاملة، ومعها الشرق الأوسط كله، ولربما العالم بقاراته، نحو سلسلة من المواجهات والصراعات الرئيسية والجانبية، وعلى نحو يقصي – سلفاً – أية خيارات على شاكلة “النأي بالنفس”، أو “التزام الحياد”، أو “الجلوس في مقعد المتفرج”، أو حتى “إدارة الظهر”، بل ويرد كيد المتآمرين إلى نحورهم، ففي سورية – سورية وحدها – لا يمكن فصل الشرق عن الغرب، ولا الماضي عن الحاضر، ولا الاستقرار العالمي عن العدالة الدولية، ولا مستقبل سورية عن مستقبل الشرق الأوسط، ولا عن مآل الصراع العربي الصهيوني، بامتداداته التاريخية وعمقه الحضاري، وتحولاته المستقبلية، ولا يمكن بدونها، أو بمعزل عنها، حل أي من مشكلاته أو استعصاءاته.
وإذا كان لهذه التحولات أن حدثت، أو لتحدث، فليس لسورية أن تعترف بالفضل لأحد، ولا أن تبدي الشكر لأي مسعى سياسي أم عسكري أم دبلوماسي، ولربما يتعين على العالم أن يصلي في محرابها ذات يوم، لأنها وقفت، وأوقفت أعتى موجة في التاريخ البشري، وأكثرها تطرفاً وهمجية، فأن تتحالف الهمجية مع البترودولار، وأن يتوحد التكفير مع تكنولوجيا الجيل الخامس، وأن يتوافق البذخ والثراء الفاحش مع حياة الكهوف والأنفاق والأقبية، وأن يفتي رجال الدين المزيفون لعتاة الصهيونية اليهودية والمسيحية والإسلامية؛ وأن تواجه كل هؤلاء معاً، وفي وقت واحد، معناه أنك تخوض المواجهة نيابة عن الدين والحق والعدالة وعن البشرية، ومعناه أيضاً أنك انتصرت – انتصرت وحدك – لأن يد العناية الإلهية امتدت إليك، وصوبك، وأمدتك بالعون والدعم والقدرة على المثابرة والتحمل، فأنت امتداد غير متناه، وجوهر حقيقي، وإنسان من روح سماوية، ولأنك خلاصة لهذا الأبد الذي يحكم عليك أن تستمر، وتنهض، وتنتفض وسط الظلمة والرعبة حيث يعيش آلهة العالم السفلي جنباً إلى جنب مع القتلة – قتلة أخوتهم وأشقائهم!! – واللصوص والمنحطين والسفلة وعديمي المروءة ومجردي الكرامة.
لن تكون سورية مدينة لأحد إلا لذاتها، شعباً وجيشاً وقيادة، وإن عادت الأمور إلى مجاريها، فهي لن تعود إلى سابق عهدها إطلاقاً، وإذا كان هناك من يسير في طريق العودة إلى جادة الصواب فلأنه يريد إطفاء النيران التي أخذت تشب بأطرافه؛ فالمنطقة كلها محاصرة وليس سورية وحدها، والانهيارات في كل زاوية من زوايا الشرق الأوسط، ومن ضحى بسورية، وطناً وشقيقة، في ساعة غفلة – أو تآمر – إنما سيجد نفسه أخيراً على “القائمة”؛ وللمفارقة، كما انفرط عقد الجميع قبل عقد من الزمن، هاهم يرجعون القهقرى في عودة جماعية لا تحيلنا إلا إلى حقيقة بائسة وهزيلة واحدة، وهي أن “العالم” العربي أهدر عقداً كاملاً من مستقبل أبنائه وشعوبه.. وهذا أقل ما يمكن قوله!!
على امتداد عقد كامل، تمثلت سورية دروس المحنة.. قبل مئة عام، كانوا يسمون ذلك وعياً ثورياً ينهض على القراءة الجدلية للمراحل التاريخية.. اليوم تضيء المنطقة العربية، ومعها الشرق، بوعي جديد استناداً إلى ملحمة الكفاح السورية.
بسام هاشم