أزمة الغواصات.. انهيار تحالفات وبناء أخرى
طلال ياسر الزعبي
تفاعلت مؤخراً أزمة الغواصات بين باريس من جهة وكلّ من واشنطن ولندن وكانبيرا من جهة أخرى، حيث صعّدت باريس لهجتها بشكل غريب تجاه من يفترض أنه أقرب حلفائها وهو الولايات المتحدة الأمريكية، وبلغ ذلك استدعاء سفيريها لدى كلّ من واشنطن وكانبيرا، دون أن يشمل ذلك سفيرها في لندن، حيث أشار وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إلى أن فرنسا تعلم أنها انتهازية ولذلك لا تعتدّ كثيراً بهذا الإجراء الدبلوماسي معها.
والحقيقة أن باريس تدرك جيداً أن لندن يقتصر دورها في هذا الأمر على كونها عرّاب صفقة الغواصات، وذلك أن أستراليا تابعة أصلاً للعرش البريطاني ولندن ستتولّى إقناعها بضرورة إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية التقليدية العاملة على الكهرباء والديزل واستبدالها بصفقة الغواصات الأمريكية العاملة على الوقود النووي، وهو الإطار الذي سيقنع كانبيرا بإلغاء صفقة الغواصات مع باريس، في مواجهة الصين التي يتمّ تصويرها حالياً على أنها خطر محدق بجميع الدول المطلة على المحيطين الهندي والهادي، وبالتالي كان لا بدّ من عقد اتفاقية أمنية بين واشنطن ولندن وكانبيرا “أوكوس” لتصوير الأمر على أنه ضمان للأمن القومي لأستراليا وليس مجرّد انقلاب على اتفاقية اقتصادية بين دولتين.
ولكن باريس لم تقتنع صراحة بهذا التفسير، وأكدت على لسان وزير خارجيتها أنه كان ينبغي على الأطراف الثلاثة الموقعة على الاتفاقية إطلاع حليفها الفرنسي على مثل هذه الإجراء لو كانت النيّات سليمة أصلاً، ومن هنا عبّرت عن الأمر بأنه أزمة ثقة بين الحلفاء وليس مجرّد إلغاء صفقة أو عقد اقتصادي، الأمر الذي يؤكد أن الأزمة في طريقها إلى مزيد من التفاعل.
وفي حقيقة الأمر لا بدّ من مناقشة هذا الأمر من اتجاه آخر له علاقة بطبيعة التحالفات الجديدة التي تحاول واشنطن نسجها في العالم تبعاً لاهتماماتها، فالخشية الوجودية التي تعيشها الولايات المتحدة حالياً من الصعود القوي للصين عالمياً وخاصة في الفضاء تحاول التعويض عنها بمحاصرة الصين بكل الوسائل، وهذا الأمر يفسّره قيام واشنطن بالدعوة إلى إنشاء “ناتو” جديد في شرق آسيا والمحيط الهادئ لكبح جماح التنين الصيني ومنعه من بسط نفوذه على هذه المنطقة الحساسة من العالم، حيث سيؤدّي ذلك تلقائياً إلى خروج الصين من دائرة التأثير في محيطها إلى التأثير في العالم أجمع، لذلك تحاول واشنطن تغليف خشيتها من سيطرة الصين على الفضاء بهذا النوع من المضايقة، حيث تعتقد أن مزيداً من الانتشار النووي في محيطها يمكن أن يجعلها مضطرة إلى الانكفاء إلى داخل حدودها وعدم الابتعاد كثيراً في مشاريعها الطموحة لغزو الفضاء. ولكن واشنطن ذاتها تساهم الآن بشكل متعمّد في خرق اتفاقيات حظر الانتشار النووي التي تدّعي من جهة ثانية أنها تعمل على ضمان تطبيقها في أماكن أخرى من العالم، وهذا الأمر ينطوي على أمور أخرى، منها صناعة أعداء جدد للصين وروسيا في النادي النووي، الأمر الذي يهدّد باندلاع حرب من هذا النوع مستقبلاً، حيث أكدت الصين من جهتها أن هذا الأمر يجعل أستراليا عرضة لضربة نووية في أي لحظة.
وبالعودة إلى فرنسا التي تلقّفت الأمر على أنه اعتداء مباشر عليها و”طعنة في الظهر” ممن يُفترض أنهم حلفاؤها، فإن هذه الأخيرة ربما قرأت في الاتفاقية الأمنية الأخيرة بين الدول الثلاث محاولة لتهميش دور الاتحاد الأوروبي في السياسات العالمية، حيث انبرى مسؤولو الاتحاد الأوروبي لانتقاد هذا الإجراء وعدّوه تجاوزاً للتحالف القائم بين واشنطن والاتحاد، ودافعاً قوياً للاتحاد للبحث عن إستراتيجية جديدة للدفاع بعيداً عن الإطار التقليدي الذي يمثله حلف شمال الأطلسي “ناتو”.
ولكن التصريحات الأوروبية الأخيرة حول هذا الموضوع تصبّ في اتجاه واحد هو أن الاتحاد الأوروبي بعد الانسحاب البريطاني منه بات يفكّر فعلياً في إنشاء منظومة عسكرية وأمنية خاصة به بعيداً عن واشنطن، حيث تزايدت التصريحات الأوروبية مؤخراً، وخاصة الفرنسية والألمانية، حول ضرورة إنشاء جيش أوروبي موحّد مستقل يشكل إطاراً دفاعياً لأوروبا بعيداً عن “ناتو” الذي تتحكم واشنطن غالباً بقراراته المصيرية.
إذن، ما الذي أثارته فعلياً أزمة الغواصات في العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وواشنطن؟.
يظهر بشكل واضح أن باريس نظرت إلى الموضوع على أنه خسارة لصفقة تجارية مع كانبيرا قيمتها نحو أربعين مليار دولار، وأنها كانت تعوّل كثيراً على إتمام هذه الصفقة، وهي بالتالي لن تمانعها إذا ما تمّ تعويضها أو التشاور معها فيما يخصّ التعويض، ولكن الاتحاد الأوروبي قرأ في الأمر شيئاً آخر له علاقة بعمل أمريكي ممنهج للانسحاب تدريجياً من تحالفاته مع دول الاتحاد، وخاصة حلف شمال الأطلسي “ناتو” الذي تزايد في الآونة الأخيرة الحديث عن انهياره في ظل الخلافات القائمة بين طرفي المحيط حول مشكلات التمويل والعلاقة بين الحلف ودول عظمى مثل روسيا والصين، وبالتالي بات يستشعر ضرورة أن يكون له جيش مستقل يتولّى مسؤولية الدفاع عن الاتحاد الأوروبي، وهو الأمر الذي تعارضه واشنطن بشدّة وتسعى إلى عرقلته رغم عدم إيمانها بجدوى الاستمرار في التحالف عسكرياً مع أوروبا حالياً.
أما الهدف الأمريكي من كل ذلك فهو استخدام أقصى الضغوط على كلّ من الصين وروسيا في هذا الجانب في محاولة لمنعهما من النفاذ إلى مجال أوسع من السيطرة والنفوذ في العالم، مع العلم أن الدولتين تمتلكان تكنولوجيا متطوّرة في صناعة الغواصات بالذات، ولكن لا بأس في محاولة استنزاف الطرفين عبر فتح باب لسباق تسلّح جديد، حيث تقوم واشنطن بذلك دائماً بشكل غير مباشر، أي تستخدم طرفاً من المنطقة في عداء الصين حتى يكون هو في مواجهة أيّ ردّ منها تحاشياً لدخولها في مواجهة مباشرة معها.