قوتان.. النّور والظلمة!
حسن حميد
بلى، ثمّة قوتان تتصارعان منذ الأزل الذي بدأت به الحياة، وحتى هذه الساعة، وإلى ما شاء الله من أزمنة قابلة، هاتان القوتان هما قوة النّور، أو قوى النّور، وقوة الظلمة، أو قوى الظلمة.
مفهوم البطولة ينسب إلى قوة النّور لأنه يتمّ في العلن ويعيش في الوضوح، بينما مفهوم التوحش ينسب إلى قوة الظلمة وكلّ الطّيوف المستلّة منها، مثل التواري، والكيد، والعماء، والجهل، والغضب، والقتل، والبطش.. إلخ، البطولة تحبّ الحياة وتدافع عنها، تحبّ النّور الذي ليس طقساً وإنما هو حياة وعقيدة وصيغة عيش، والتوحش ينتمي إلى الظلمة والاختباء والتلطي، ولاشيء يفعله سوى القتل والمطاردة ونشر الخوف الدائم، كدت أقول الأبدي، وطيّ الحياة.
منذ زمن الأساطير كانت (الغورغونات) تعيش في العتمة، وحيث تعيش ينتشر الخوف، وتُسفك الدماء، ويصير الفقدُ حياةً، وتتلو الفقد المآسي والتفجعات.
وكان (سيربريوس) الكلب ثلاثي الرؤوس يحرس بوابة (ترتاروس) وما خلفها من عتمة شاسعة أو مظالم لا تعدّ ولا تُحصى، وحالاتُ الموت تصيرُ أشبه بعربات القطار التي يقطرُ بعضُها بعضاً، إنه حارسٌ لدارة الموتى الشاسعة، وليس في هذه الدارة سوى الموت، وكذلك هي وحوش الكهوف البرية والبحرية التي تترقب قدوم السفن والبحّارة لتبتلعهم جميعاً، وتُدمر السفن، مثلما تترقب اقتراب قطعان الماشية والرعيان في الأماكن البرّية لتقوم بالفعل الوحشي نفسه.
أقول هذا، وأنا أرى مشاهد التباهي التي يبديها الإعلام الصهيوني بالقبض على ستة أسرى فلسطينيين استطاعوا الفرار من كماشة القوة الإسرائيلية متعدّدة الأنياب والأذرع وهم سجناء الظلمة التي فُرضت عليهم قسراً لأنهم ما استطاعوا العيش فيها لأنهم ينتسبون إلى عالم النور، لأنهم أبطال، يتباهى الإعلام الإسرائيلي الضرير بأن قوى العتمة، وبعد أسبوعين من البحث والتقصي والمطاردة وتوظيف الأدوات، استطاعت القبض على الأسرى الذين حرّروا أنفسهم بالإرادة والفعل الأتمّين، قوى الظلمة تمتدح نفسها وقدراتها، وأذرعها التي طالت وامتدت بشرورها منذ مئة سنة وحتى اليوم، فاستطاعت القبض على الأسرى، وقد تناست قوى العتمة، أو أسقطت من حسابها الحقائق الأولى، والعتبات الأولى للقيم السامية، وتطلعات الروح الإنسانية الأولى والضرورية، وفي مقدمتها المفاضلة ما بين عالمي النور والظلمة، وثنائيات البطل والوحش، والظلم والعدالة، والموت والحياة، إنهم يتغافلون عن أنهم غاصبون، وسرّاق، ووحوش ظلمة، جعلوا من الوطن الفلسطيني العزيز سجناً كبيراً ليس فيه سوى العتمة والخوف والإماتة والرعب، لهذا من الطبيعي، وانطلاقاً من الفطرة الإنسانية، على الكائن النوراني، عاشق الحياة والعمران، أن يشقق البطل دربه نحو النور، وما من تعريف للنور سوى الحرية والتجلي صعوداً بمعاني الحقّانية الآبدة.
يتناسى المتباهون بالقبض على الأسرى الأبطال أنهم حفروا دربهم في الظلام، والخوف، والهواجس، أيّ في صلب ثقافتهم، كيما يصلوا بأرواحهم إلى النور.
لهذا قالوا خمسة أيام من الحرية تساوي حيواتٍ، وطعوم حبّات قليلة من التين والعنب والصبار في براري فلسطين الباذخة تساوي حيواتٍ أيضاً، واستنشاق رائحة الخبز الصباحي الآتية من القرى هبوباً تساوي عطور الدنيا كلّها، وأن النوم في البراري تحت ضوء القمر يساوي أكثر أَسرّة الدنيا دفئاً وطمأنينةً!.
بلى، يتناسى المتباهون بالقوة الإسرائيلية جوهر الصراع ما بين النّور والظلمة، وبين الأبطال والوحوش، وبين الحقّ والباطل، وبين روح الضحية وروح الجلاد، وبهذا النسيان البشع، ينسون بأن البطولة هي المنتصرة أبداً على قوة الوحوش الباطشة، وأن النور هو الأعمّ مهما امتدّت الظلمة لأنه هو الباني؛ وعلى هؤلاء المتناسين، المتباهين بالقوة، أصحاب الثقافة المتوحشة، ثقافة الإخافة والإماتة، أن يتفطّنوا ويعوا أن زمن إسبارطة انتهى وولّى، وأن أيّ محاكاة لإسبارطة وزمنها.. هي محض وهم.. وباطل، لأن المآل هو للنور والبطولة أبداً.
Hasanhamid55@yahoo.com