هل أميركا حقاً القوة التي لا تقهر؟
محمد نادر العمري
نجحت الولايات المتحدة الأمريكية منذ خروجها من عزلتها بعد الحرب العالمية الثانية، في تقديم صورة ذهنية ونفسية للعالم بأنها القوة التي لا تُقهر، وأن مجرد تفكير أي دولة الوقوف بوجه مشاريعها سيؤدي بها إلى الانهيار والتفكك وقد يعرّضها لعدوان أو حرب مباشرة.
هذا الاعتقاد سعت الولايات المتحدة عبر مؤسّساتها وحكوماتها وإدارتها إلى تكريسه وفق أسلوب كل رئيس وأجندات حزبه التي لم تختلف في رسم محدّدات الخارج تحت عناوين مختلفة، تراوحت مابين “أميركا أولاً أو القوة العظمى الوحيدة، أو التفوق الأمريكي، أو الهيمنة المطلقة”، ومما ساعد واشنطن على ذلك عوامل عديدة، منها ما هو طبيعي أوجدته طبيعة العلاقات المتحوّلة التي شهدها المجتمع الدولي، ومنها ما هو مصطنع ابتدعته واشنطن، مستغلة تفوقها الصناعي والتكنولوجي وهيمنتها الاقتصادية وخروج معظم الدول من الحرب العالمية الثانية منهكة ومستنزفة من كل الجوانب، فسعت لاجتذاب المنظمات الدولية لأراضيها أو ساهمت بمعظم هذه المؤسّسات لتتحوّل إلى مركز إدارة النظام المؤسساتي الدولي من الناحية الإجرائية والتنفيذية. وفي الوقت نفسه أسّست مؤسسات مالية ونقدية وفق رؤيتها تخضع لتأثيرها وتخدم توجهاتها المهيمنة، ونجحت في السيطرة على الاقتصاد الدولي ومساراته ومعدلات نموه، مما انعكس على التحكّم بمجريات الحياة الاقتصادية للدول عبر شبكة ربط “دولارية” تحدّد مصير هذه الاقتصاديات. وفي الوقت نفسه استغلت الظروف والأوضاع المتقلبة لخصومها، وخاصة من دول المعسكر الاشتراكي التي كانت تتسم بتناقضات من حيث القوة والمساحة والإمكانات، ما أتاح لها خلق شرخ بدأت معالمه بالاتضاح في سبعينيات القرن الماضي عندما نجحت بدق إسفين بين الجناحين الاشتراكيين، السوفييتي والصيني، وفي توسيع قواعدها العسكرية التي انتشرت وتوزعت على 93 دولة بعدد يفوق 189 قاعدة.
كلّ هذا الجهد الأمريكي من ناحية، والصورة التي أريد لها أن تقدم من ناحية أخرى، لم تنجح كثيراً في مساعدة أميركا لعدة أسباب، ففي كثير من الأحيان كان هناك الكثير من الأخطاء التي ساهمت في دفع خصومها للمناوءة والوقوف ضدها وإيجاد آليات لمقاومتها. ومن صور تلك الأخطاء استخدام الحصار الاقتصادي بشكل مستمر في حال فشل القوة العسكرية بتحقيق أهدافها، وخير دليل على ذلك كوبا والجمهورية الإسلامية الإيرانية، حيث رفضت الأولى منذ الستينيات الخضوع للهيمنة الأمريكية، وما زالت، وكذلك إيران التي أحدثت ثورتها الإسلامية عام 1979 هزة وصفت بالجيوستراتيجية وفق تعبير هنري كيسنجر، والتي لم تقبل أن تعود كما كان نظام الشاه يقدّم فروض الطاعة للأمريكان، وحدّدت مساراً لنفسها تضمّن الحفاظ على استقلال قرارها وامتلاك مقدرات ذاتية تساعدها على ذلك، ودعم حركات المقاومة.
أما الجانب العسكري والقوة المفرطة وامتلاك أسلحة نوعية متقدمة فلم تخدم المشروع الأمريكي منذ احتلال فيتنام واللجوء لسياسة الأرض المحروقة، والتي جوبهت بإرادة التحرير من قبل المقاومة الفيتنامية وصولاً للصورة المهينة التي رافقت الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.
من الأسباب التي أدّت لفشل واشنطن في تكريس هيمنتها أنها تقصّدت نشر الفوضى في الدول انطلاقاً من اعتقادها أن هذه الفوضى تخدمها في تكريس نفوذها عبر ممثلين لها داخل الدول والأنظمة من خلال أدوات تعبّر عن توجهاتها.
وما لم يكن ضمن حسابات واشنطن أيضاً هو فقدانها الهيمنة التكنولوجية والصناعية والاقتصادية، حيث شكّل احتكارها لمراكز الدراسات وإغراؤها للعقول النيرة وتمويلها المغدق للأبحاث وسيلة ناجحة لاحتكار التكنولوجية، وهو ما ظهر على مدى عقود سابقة، وخاصة مع دخول الاتحاد السوفييتي الأزمات الاقتصادية، وفرض قيود على اليابان بأن تكون تكنولوجياتها بما فيها العسكرية خاضعة للإشراف الأمريكي.
لكن هذا المشهد بدأ بالتحوّل من مطلع الألفية الجديدة، وهو أكثر ما أزعج واشنطن وبدأ يهدّد هيمنتها الدولية، ولعلّ أبرز صور الصراع التكنولوجي البارزة تتمثل في فرض العقوبات الاقتصادية على الصين لمنع نشرها الجيل الخامس من الانترنت، وعدم الاعتراف باللقاحات الصينية لاعتبارات سياسية واقتصادية!.
إن الاعتقاد بأن أميركا هي القوة التي لا تُقهر اعتبار خاطئ بالمطلق، فأميركا اليوم تشابه تماماً الإمبراطوريات السابقة، ولكن مع اختلاف التسمية والزمن والإمكانات، ومصيرها في النهاية هو الانهيار والزوال ولو بشكل تدريجي، ولكن هيمنتها قهرت وتقهر بشكل مستمر، ومن أبرز صور القهر التي شعرت بها أميركا مؤخراً بعد أفغانستان هو أن يتمكّن حزب الله بعدده القليل من كسر الحصار الاقتصادي على لبنان بدعم من محور المقاومة، وأن يُسقط الحدود السياسية الجغرافية التي سعت أميركا لتعميقها بإدخال حافلات المازوت أمام مرأى من أساطيلها المرابطة في الخليج العربي والبحر المتوسط.