موْت الكتاب
عبد الكريم النّاعم
في النّقد الأدبي بُشِّر، في إحدى النّظريّات الأدبيّة، بموت المؤلّف، وانساق من أهل هذه البلاد مَن انساق مهلّلاً، حتى كأنّ النصّ كان من إبداع الفراغ، لا من إبداع مَن يحمل النصُّ المُبدَعُ خارطةَ أعماقه، ونفثات تطلّعاته التي تحمل بصمته الرّوحيّة، وجاءت نظريّات أخرى أَجْلتْها عن السّاحة، حتى لكأنّ النّقد الأدبيّ يخضع لشيء من صرعات “الموضة”.
بعض الفيسبوكيّين يُبشّر بموت الكتاب، وهذه البشارة لا تروق لمَن جمع مكتبته المُتواضعة على حساب لقمة العيش.
في البلدان الموصوفة بالتقدّم، ما زلنا نشاهد لقطات للمسافرين فيها عبر قطارات الأنفاق أو في البرّ، وحتّى أثناء الذّهاب للوظيفة.. نشاهد من يقرأ كتاباً أو مجلّة، فالقراءة جزء من برنامج يوميّ، وهذا يعني أنّ الكتاب لم يمت حتى في تلك البلدان، ولا أستطيع أن أقيس أنفسنا بمَن ذكرت، فنحن نكاد نكون نموذجاً في الاختلاف السّلبي لا في الاختلاف الإيجابي، فنحن الغارقون حتى الأذنين في وحول المعوِّقات، وبعض العادات والتقاليد التي لا يُفاخر بها إلاّ جاهل، فنحن بوعي، وبلا وعي من البعض الآخر نسعى لدفن الكتاب قبل أن يكتمل موتُه!!.
في أزمنة ماضية ليست ببعيدة كثيراً، كنّا إذا دخلنا بيتاً وطالعتْنا بهجة الكتب المصفوفة بعناية، أو حتى المُبعثرَة بشيء من الفوضى، كنّا نقف بشيء من الإجلال، فصاحب هذه المكتبة إمّا أنّه من أهل الثقافة، وإمّا أنّه سليل بيت عاش فيه مثقّف جمع هذه الكنوز الصامتة النّاطقة.
في ذلك الزمن، وفي بيوت بعض الأغنياء، والذين كانوا يشعرون بقيمة الثقافة بعامّة، أنشأ البعض زاوية، أو جناحاً للكتب ليُباهي بها، حتى وإن لم يفتح كتاباً منها، بل إنّ البعض كما رُوي لنا استعان ببعض المكتبات فهيّأت لهم أغلفة كتب مظهرها يوحي بأنّه كتاب، فإذا مددتَ يدك لتتناوله خرج بيدك قشر كتاب، وهذا يدلّ على ما ذكرناه من قيمة.
الآن تعيش مكتبات البعض في غربة، فليس لها وارث يقرؤها، بل وستكون عبئاً على الوارث، ماذا يصنع بها سوى أن يبيعها بالكيلو، هذا الذي جُمع بلهفة القلب وبهدب العين يُباع بالكيلو!.
أمّا أنا فقد ذكرتُ في كتابة سابقة أنّني ورّطت الورثة فقد كتبتُ وصيّة حدّدتُ فيها نصيب كلّ وارث، فالحِمْل خفيف على الجماعة، وأوصيت بأن تُهدى الكتب النّقديّة لكليّة الآداب، جامعة البعث.
بدأ البعض من الكتّاب والأدباء بتأسيس مكتبة إلكترونيّة، وتلك خطوة متساوقة مع معطيات العصر التكنولوجيّة، وهذا يقتضي التّلاؤم مع القراءة عبر شاشة الكمبيوتر، ولا يستطيعها إلاّ مَن نشأ عليها، أمّا الذين اعتادوا على حَضْن الكتاب، وتقليب أوراقه، فسيجدون صعوبة في ذلك، أمّا بعض أبنائنا فقد عزفوا عن الكتاب أصلاً، وذهبوا إلى ألعاب الكمبيوتر، وإلى ما يستهلك الوقت سدى، وفي الألعاب التي تستدرجهم وتستهلك الوقت، فهو ديدنها في البيت، كما في الشارع، وفي هذا من الاستلاب ما يثير العميق من القلق، ويُثير التساؤل إلى أين نحن ذاهبون؟!! إلى أين لا أدري، ولكن ليس إلى ما نطمح إليه بالتأكيد.
الآنَ يستطيع أيّ راغب في اقتناء كتاب إلكترونيّ لا يوجد عنده أن يتّصل بمن لديه نسخة فيرسلها له إلى بريده الإلكترونيّ، وستخلو بعض البيوت من فتنة المكتبة وسحرها، ولن تجد مَن يعتذر عن إهداء الكتاب بدلاً من استعارته، تلك الاستعارة التي كانت تعني عدم إرجاع بعض الكتب لأصحابها، والتي قال فيها حافظ إبراهيم:
أَلاَ يا مُسْتعيرَ الكتْب دَعْني/فإنّ إعارتي للكتْبِ عارُ
فمعشوقي من الدّنيا كتابٌ/فهلْ أَبْصرْتَ معشوقاً يُعارُ؟!!.
aaalnaem@gmail.com