العربية تاج يكلل عقول العلماء
لا أحد بإمكانه أن ينكر مكانة وفضل العربية في الثقافة والأدب العالميين، فقد كانت يوماً لغة الحضارة والعلم والأدب، إذ وُهبت بمفردات جمّة أتاحت لمتحدثها التعبير عن غايته بدقة وإبداع، ولحروفها أصوات كأوتار قيثارة إن ضربت تملأ الدنيا أنغاماً شهيّة تأسر قلوب من يتلقفها. والآن يدمى القلب لحالها وواقعها وما آلت إليه من تشرذم لفظي واعتداء صريح على مفرداتها وإدخال صيغ الترجمة، فتراها كالثكلى تبحث عن أبنائها الذين فارقوها، فيما عشقها المستعربون وأسرت رسمات حروفها ألبابهم.
وتواجه لغتنا في يومنا هذا تحديات خطيرة، منها عدم مواكبتها للعلوم الحديثة، لا لقِصَر في بنيانها وتكوينها ومفرداتها، بل لإهمال –متعمّد ربما– من معظم متحدثيها وابتعادهم عنها، وهذا يرجع في جزء كبير منه إلى لجوء المتعلمين إلى لغات أخرى وإدخال مصطلحاتها إلى العربية بصورة هجينة ومستهجنة، وهذا يجانب ضعف عملية التعريب والترجمة، التي تعدّ ركناً مركزياً -وربما أساساً– لنمو المجتمعات وتطورها.
اليوم العالمي غير الحكومي للغة العربية
وثمّة محاولات عديدة لإيقاد شعلة الضاد والحفاظ على الإرث الكبير، من إصدار الكتب إلى الندوات والاحتفالات وغيرها. منها ما اقترحه د. جورج جبور باعتماد يوم عالمي للغة العربية، وهو ما أدّى فيما بعد إلى موافقة الدول العربية على اقتراح اليونسكو بأن يكون اليوم العالمي للعربية في 18 كانون الأول من كل عام.
ونادى جبور في مؤتمر عن اللغة العربية عُقد في بيروت عام 2014 باختيار رمز للعربية، وجدّد دعوته هذه في ندوة أقامها اتحاد الكتّاب العرب بمناسبة يوم المتنبي في 26 أيلول الجاري، إذ حثّ على عدّ يوم وفاة المتنبي (27 أيلول من كل عام) “اليوم العالمي غير الحكومي للغة العربية”، بالاتفاق مع المحاضرين الآخرين.
وقال جبور في كلمته: “للمتنبي خصوم كثر، لكن أشعاره تبقى الأكثر تداولاً عربياً بعد القرآن الكريم.. ولم يكن المتنبي اختياري الأول”، لذا اقترح ستة رموز للاختيار بينها هم: ابن خلدون، ابن رشد، ابن سينا، المتنبي، المعري، ملمحاً إلى أننا “في زمننا الصعب نحتاج المتنبي رافعة لشموخنا”.
المتنبي أحب العربية وأحبته
ولفت الأستاذ محمد حسن العلي إلى أننا “عندما نتحدث عن اللغة العربية، لا بد من ذكر أبي الطيب المتنبي، أحد أوابدها الخالدة إن لم يكن أجلّهم وأعظمهم مكانة، ولا غروَ أنه من أعظم الشعراء العرب، بل في اعتقادي أنه من كبار شعراء العالم عبر كل العصور، لأنه مروّض الحروف ومطوّع الكلمات، ذلك الشاعر الذي أحب العربية وأحبته وأتحفنا بأجمل ما فيها”.
وأكد أن “محبتنا لأفذاذ الشعراء كالمتنبي من محبتنا للغة العربية، تلك اللغة التي تسكننا وتجري مجرى الدم في أجسادنا، نسافر مع حروفها إلى عالم من السحر والجمال.. وهي كنز عظيم لا تضاهيها كلّ لغات العالم، وهي لغة القرآن الكريم أصل البلاغة ومصدر الإعجاز اللغوي ومنبع الكلم الطيب”.
واستشهد العلي بقول ابن جني عن المتنبي: “إنني لم أرَ شاعراً كان في معناه ولا مُجرياً إلى مداه.. لقد كان من الجِد فيما يعانيه ولزوم طريق أهل العلم فيما يقوله ويحكيه على أسدِّ وتيرة وأحسن سيرة”.
وبيّن العلي أن المتنبي كان “عالماً باللغة العربية، وقواعدها النحوية والصرفية، ينظمُ شعره جزلاً، منمّقاً، عميقَ الفكر، كثيرَ الفهم، ونادرَ الموهبة في ذلك الزمان، حيث يعدّ المتنبي إلى وقتِنا الحاضرِ ملهماً للشعراء.. وهذا ما جعل منه فيما بعد أسطورةً شعرية يتحاكى بها إلى الآن الشعراء، ومحبّو الشعر”.
اللغة العربية في المناهج التعليمية
وتحدث الأستاذ ناصر بحصاص عن مساعي وزارة التربية لتحسين مناهج اللغة العربية بما يتناسب مع متطلبات العصر وذائقة الجيل الصاعد، وأشار إلى أننا أمام “تحدٍ كبير، وهناك متغيرات كثيرة، فالمتعلم يتعامل مع شاشة ثلاثية الأبعاد، في حين أن للكتاب بعدان”.
وذكر بحصاص ثلاثة محاور للتحديات التي تواجهها لغة الضاد، فبدأ بمحور “اللغة العربية كأداة تواصل إنساني” نعبّر من خلالها عن أفكارنا ومشاعرنا، وهي أداة المتعلم في الدراسة والتحصيل والنجاح. ثم انتقل إلى المحور الثاني “منهجية الكتاب المعاصرة”، التي وضعت بما يخدم اللغة ويحقق أهدافها، على حدّ قوله، وتناول في المحور الثالث ما احتوته المناهج من أساليب وتقنيات تعليمية حديثة.
وتساءل رئيس اتحاد الكتّاب د. محمد الحوراني: “لدينا عدة أعياد للغة العربية، لكن ما الذي قدّمته هذه المناسبات للغة العربية؟ هل قدّمت شيئاً جديداً؟ وهل جعلت مدرّس اللغة العربية يتقن التعامل مع التلاميذ؟”.
ولم يخفِ د. الحوراني خوفه على اللغة العربية من ابتعاد الناشئة عنها، إذ رأى أننا أمام “مشكلة كبيرة على مستويات التربية والتعليم والإعلام، حتى بين الأدباء أنفسهم، وبالتالي، أعتقد أننا إذا أردنا أن نشتغل على تكريس حضور اللغة العربية بين الناشئة، يجب أن ننطلق بداية من الأسرة، ومن ثم الاشتغال على ذلك عبر العمل على المناهج التربوية والتعليمية والإعلام والأخلاق، وإلا فإني أعتقد جازماً أن جميع المناسبات والأعياد لا يمكن أن تزيدنا إلا بعداً عن اللغة العربية”.
لا ريب أن لغة المرء ممزوجة في كيانه مهما نأى عنها، وليس للغةٍ أن تحلّ محلها طال الزمان أم قصر، فهي لغته الأم التي نشأ في أحضانها وتحت جناح حنانها، ولا ريب أنها العِرض الذي يجب الحفاظ عليه والذود عنه، والتاج الذي يكلّل عقول العلماء.
وعليه، آن للعرب أن يولوا “لعرضهم” قدر الاهتمام الذي يستحقه، ولحمايته من “الأذى” والمدخلات الهجينة، يجب أن يبذل كل ذي علم ما بوسعه لتأجيج شعلتها، ونقل تاجهم إلى الأجيال القادمة، مهما قاسوا في سبيل ذلك، فإن هم ذهبت لغتهم ذهبوا. ولننتصح بقول المتنبي:
يهون علينا أن تُصاب جُسومنا .. وتسلم أعراضٌ لنا وعُقول
علاء العطار