صفقة شيطانية.. اتفاق غير معلن يجمع الولايات المتحدة والجماعات الإرهابية

“البعث الأسبوعية” ــ سمر سامي السمارة

عرى الانسحاب الأمريكي من أفغانستان دينامكية الولايات المتحدة في علاقتها التي تطورت بهدوء على مدار العقود الماضية مع المجموعات الإرهابية، وأظهر وجود تفاهم متبادل مشوب بالحذر، ولكنه “عملي”، بين واشنطن وبعض الحركات الإرهابية العالمية. ومع ذلك، لن يجرؤ أي من الطرفين على التعبير عن هذا الالتزام علنا، تخوفا من الغضب الداخلي والخارجي، كما أن الطرفين غير متأكدين من التبعات المترتبة على ذلك، فكلاهما لا يثق في النوايا الحقيقية للطرف الآخر.

ومع ذلك، ونظرا لأن تنظيم “داعش” لا يزال عازما على مهاجمة الولايات المتحدة، وبالمقابل، هو هدف رئيسي لها، نتج عن مراجعة فكرية تبني كل من الطرفين، واشنطن والمجموعات التابعة لتنظيم القاعدة، بموجبها، موقفا أقل عدوانية تجاه بعضهما البعض، وهي صفقة يبدو أن واشنطن تغاضت عن تداعياتها المتعددة وطويلة الأمد.

ويمكن إرجاع جذور هذا الاتفاق غير المعلن إلى النصف الثاني من العام 2014، عندما شكلت واشنطن تحالفا دوليا لمحاربة تنظيم “داعش”. في ذلك الوقت، كان الأساس المنطقي بالنسبة لـ “الاستراتيجيين الجهاديين” – والغالبية في الشرق الأوسط – إزاء التدخل الأمريكي واضحا: لم توجه الولايات المتحدة هجماتها العسكرية ضد تنظيم “داعش”، عندما قام بغزو منطقة كبيرة بين سورية والعراق، وحكمها بوحشية القرون الوسطى، ولكنها قامت بذلك، فقط، عندما بدأ بقطع رؤوس الغربيين، بوسائل مستوحاة من أفلام وألعاب الفيديو على غرار هوليوود، ومن وسائل الإعلام الغربية وتقنياتها، ووسائل التواصل الاجتماعي مثل يوتيوب، وانستغرام، وغيرهما، بالإضافة إلى نشر رسالته واستقطاب آلاف المقاتلين الأجانب الغربيين، وتجنيدهم لإطلاق تهديدات ضد بلدانهم الأصلية، حيث شهدت تلك البلدان مغادرة مواطنيها للانضمام إلى “داعش”.

والحقيقة الواضحة للعيان أن البروباغاندا “الداعشية” تسلط الضوء على نتاجات الولايات المتحدة الأميركية في هذا المجال، كما يُصرّح منتج الأفلام الوثائقية الأميركية أوجين جاريكي: “لسنا فقط رياديين في إنتاج القيم، نحن أيضا رياديون في تقديم مضمون بشع لا أخلاقي ومفسد للعالم”. ويضيف: “إذا كنا نشاهد اليوم الصعود السريع لداعش، فذلك يعود كذلك إلى هوسنا بالإفساد”.

لذا، يمكن القول أن الدرس كان واضحا: “توار عن الأنظار.. لا تقطع رؤوس الغربيين، ولا تخطط لشن هجمات في الغرب، وعندها ستسمح واشنطن بوجودك”؛ وهو بالضبط ما أرادته المجموعات المرتبطة بتنظبم القاعدة، لإحكام قبضتها على المناطق الواقعة تحت سيطرتها؛ ومن خلال اعتماد هذا النهج، سيطرت “هيئة تحرير الشام” المجرمة على إدلب.

بشكل واضح، كشف زعيم ما يسمى “هيئة تحرير الشام”، الإرهابي أبو محمد الجولاني، علنا أن زعيم “القاعدة” في ذلك الوقت، أيمن الظواهري، أرسل إليه “أوامر واضحة بعدم استخدام سورية كنقطة انطلاق لمهاجمة الولايات المتحدة أو أوروبا لكي لا يفسد المهمة المتمثلة بتدمير الدولة السورية.

كان جليا، تكرار الدرس السوري مؤخرا في أفغانستان، حيث فسرت المجموعات المرتبطة بتنظبم القاعدة التطورات الأخيرة في كابول على أنها اعتراف بسياسة الولايات المتحدة غير المعلنة، ولكن الواضحة على نحو متزايد، للتسامح، بل والتعاون، مع الجماعات الإرهابية “المعتدلة” التي، على الرغم من أعمالها العدائية، وانتهاكها العلني لحقوق الإنسان، لا تهاجم، وهي أقل شراسة من تنظيم” داعش”.

وفي وقت احتفل أنصار “هيئة تحرير الشام” باستيلاء طالبان على السلطة من خلال توزيع الحلوى على المارة في الطرقات في إدلب، وبث رسائل مناصرة ومباركة لما وصفوه بأنه “النصر ونيل الحرية”، أطل الجولاني متحدثا عن ضرورة التفكير جديا في توسيع نفوذ تنظيمه إلى مواقع خارج إدلب، في إشارة إلى ريفي حلب الشمالي والغربي؛ كما وصف معلق مقرب من المجموعة ذلك بـ “انتصار الصبر الذي يجب أن يستحثنا”، موضحا أن طالبان و”هيئة تحرير الشام” تؤمنان بنجاح الاستراتيجية المتدرجة، والضرورية، لكبح ميلهما لمهاجمة الولايات المتحدة من أجل الصالح العام المتمثل في تعزيز سلطتها.

المنطق نفسه ينطبق أيضا على دول غربية أخرى؛ فقد أعلنت مؤخرا جماعة “نصر الإسلام والمسلمين”، التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، ولأول مرة صراحة، أن حربها المستمرة مع فرنسا لا تشمل الأراضي الفرنسية. وبالمثل، ذكرت القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أنها ستستمر في مهاجمة المصالح الفرنسية في المنطقة، لكنها أعلنت أنه لن يتم استهداف الأراضي الفرنسية من مالي أبدا.

إن رسالة المجموعات الإرهابية التابعة ​​للقاعدة إلى الغرب واضحة، وتشبه رسالة حليفتها طالبان: “دعونا نتسلم أمور الحكم ولن نزعكجم.. نحن نعلم أنكم تريدون الخروج من المنطقة ولم تعودوا مهتمين بقضاء حياتكم وإنفاق أموالكم للبقاء في الأماكن النائية ذات القيمة الاستراتيجية الضئيلة بالنسبة لكم. اسمحوا لنا بأن نحكمهم ولن نضايقكم. وعلى العكس من ذلك، سنساعدكم في الواقع على تحييد المجموعة الوحيدة التي تهددكم، تنظيم “داعش”، والذي هو أيضا عدونا اللدود.

ظاهريا، سندينكم، وندد بدعمكم لإسرائيل والأنظمة الأخرى في المنطقة، وبالإساءة للإسلام، في جميع خطبنا ودعايتنا، لكننا أصبحنا أطرافا سياسية براغماتية مستعدة لعقد صفقة تسمح لكم بالخروج من أجزاء كبيرة من المنطقة، دون أية عواقب سلبية”.

من الواضح أنه لم يتم التعبير عن شروط الصفقة بعبارات واضحة، لأن ذلك من شأنه أن يعطي ذريعة لمروجي الدعاية في تنظيم “داعش”، الذي يصور بالفعل تنظيمي القاعدة وطالبان بأنهما متعاونان مع الولايات المتحدة وعميلان تخليا عن الطريق الحقيقي لـ “الجهاد”، وهي اتهامات يمكن أن تكلفهما غاليا في السوق التنافسي لـ “الدعم الجهادي”، لكنها واضحة وضوح الشمس لأولئك الذين يولونهم اهتمامهم، ومغرية للكثيرين في الولايات المتحدة، خاصة أولئك الذين ضاقوا ذرعا بالحرب المزعومة على الإرهاب التي استمرت عقدين، ومن المحاولات الفاشلة لبناء الدولة بين صانعي السياسة الأمريكيين.

قلة في واشنطن تجرؤ على التعبير عن ذلك بمثل هذه العبارات، لكن الصفقة التي تسمح للولايات المتحدة بالحفاظ على الأرواح والمال من خلال تكليف “الجهاديين المعتدلين” بالسيطرة على المناطق التي يبدو أنها لا يمكن أن تحكمها أي قوة أخرى هي شكل من أشكال “السياسة الواقعية” التي تلقى قبولا لدى الكثيرين؛ خاصة، إذا كانت هذه السياسة مصحوبة برواية تصور “الجهاديين المعتدلين” بوصفهم تعبيرا أصيلا عن السكان المحليين، وتندد بين حين وأخر بإنتهاكات حقوق الإنسان، أو حتى ببعض العقوبات عديمة الأهمية لإراحة ضميرها.

ومع ذلك، هناك أسباب وجيهة تدعو للتخفيف من الحماس لهذه الصفقة الشيطانية.

أولا، لن يعني ذلك بكل تأكيد نهاية الإرهاب في الغرب، فعلى مدار السنوات العشر الماضية، نفذت الغالبية العظمى من الهجمات ذات الدوافع “الجهادية” في أوروبا وأمريكا الشمالية على يد إرهابيين غير تابعين أو مؤيدين لتنظيم “داعش”، والهجمات القليلة التي نفذها أفراد مرتبطون بالقاعدة، يمكن عدها على الأصابع.

وبما أن الهجمات في الغرب هي إحدى الطرق التي تعزز بها “الجماعات الجهادية” مكانتها بين المؤيدين المحتملين، يمكن القول إن صفقة “القاعدة” والغرب التي تعزز قدرة التنظيم على السيطرة على مناطق واسعة، قد تدفع تنظيم “داعش” إلى تكثيف هجماته التي تعد أفضل سلاح له لمواجهة نجاحات منافسيه من خلال الدعاية؛ إضافة إلى أن فروع “القاعدة” مرنة، ولا تخضع لهيمنة إدارة هرمية صارمة؛ وليس من المستبعد ألا تلتزم بعض الجماعات التي تنتمي إليها بشروط الاتفاقية ثم تهاجم الغرب.

 

 الجهاد المتدرج

ثانيا، يشعر العديد من شركاء الولايات المتحدة في المنطقة – أولئك الذين يطلق عليهم تنظيم “القاعدة” صفة “العدو القريب” – بالإحباط المتزايد بسبب انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط، وما يعتبرونه نمط واشنطن في عدم الدفاع عن حلفائها. وسيظل العديد منهم أصدقاء مقربين للولايات المتحدة، لكن من المحتم أن يبحثوا عن شركاء أمنيين إضافيين، إن لم يكن بدلاء. وتعطي بوادر الانفتاح التي صدرت مؤخرا عن دول الخليج – والتي ظلت على مدى عقود في المعسكر الأمريكي – تجاه الصين وروسيا أمثلة على هذه الديناميكيات.

ولكن الأهم من ذلك أن الخلل الفادح يكمن في الافتراض الأساسي الذي تقوم عليه الصفقة، وفي النهج المضلل الذي تتبعه الولايات المتحدة، والقائم على تقسيم المجموعات الإرهابية إلى “معتدلين” مثل “هيئة تحرير الشام” و”طالبان” وحتى “القاعدة”، و”متطرفين” هم هنا “تنظيم داعش” الذي تعتبره العدو الحقيقي الوحيد، علناً على الأقل.

هناك فروق بين “الجهادية المتدرجة” و”الجهادية التي نفد صبرها”، فالأولى مستعدة بشكل براغماتي لثني إرادتها مؤقتا لتحقيق أهدافها، فيما الثانية أكثر تعنتا. ولكن “الجهادية المتدرجة” ليست أكثر اعتدالا، غير أنها ببساطة أكثر ذكاء من الناحية التكتيكية، حيث تتكيف على المدى القصير لتكون في وضع أفضل لتنفيذ ما تُبنى عليه أيديولوجيتها: زعزعة استقرار أكبر مناطق ممكنة في العالم الإسلامي، و”الشرق العربي خاصة، ومهاجمة الغرب.

حقيقة، لا يكمن الفرق بين الفصيليين في الأهداف النهائية، ولكن في الإطار الزمني لتحقيق هذه الأهداف. لذلك، وقبل عقد صفقات تبدو مريحة على المدى القصير مع الشيطان، يتعين على صانعي السياسة الغربيين التفكير فيما وراء الإطار الزمني لدورة أخبار الـ 24 ساعة، والحملة الانتخابية الدائمة.