السلالات الأدبية
ناظم مهنا
يذهبُ بعض نقاد الأدب في الغرب إلى وضع شجرة نسب للكتّاب البارزين في تاريخ الأدب، ولا يعنون إطلاقاً بوضع أصحاب المواهب المتوسطة في أي سياق سلالي أو عائلي، فهل فكرة السلالات الأدبية حقيقة يعتدّ بها، أم هي مجرد فكرة اخترعها نقاد الأدب؟!.
الفكرة رغم جاذبيتها لا يوجد إجماع عليها، وهي كأيّ فكرة وجيهة يوجد من يؤيدها ومن يرفضها. الفيلسوف الروسي برديائيف من أبرز من يرفض السلالات الأدبية وهو يرى أن: «الإبداع لا يصدر عن شيء ما سابق، وهو لا يُفسَّر، بل هو سرٌّ لا يشرح ولا يدرك». ويلتقي كارل يونغ مع برديائيف بالنظرة الصوفية للإبداع الأدبي بصفته لغزاً يصعب حلَّه، ويقول: «إن سرَّ الخلق الفني، شأنه شأن حرية الإرادة، يعدّ مشكلة متعالية، ليس في وسع علم النفس الإجابة عنها، إنما بإمكانه وصفها ليس إلا..»، ويرفض يونغ مزاعم فرويد في ردّ الإبداع الفني إلى العصاب والأوديبية، ويرى يونغ أن المبدع بالإضافة إلى كونه شخصاً عادياً يعيش كالآخرين إلا أنه إنسان جمعي، حامل لواء الروح الفاعلة اللاشعورية للإنسانية، والساكب مضامينها في قوالب مبتكرة. وكل الذين يرون أن الفن صنعة وعبقرية فردية لا يتحمسون لنظرية السلالات!.
نظرية السلالات رغم وجاهتها لا بد من الارتياب بمقدرتها على الصمود وعلى منحنا أجوبة نهائية، فنحن حين نعثر على سلالة ما نعجز عن تتبعها من البداية حتى النهاية، فيمكن أن نعثر على سلالة روائية تبدأ من ديستوفسكي مروراً بكافكا وانتهاء بفوكنر، لكن من هو والد ديستوفسكي ومن هم أسلافه الأدبيون، ومن هم أحفاد فوكنر؟!، كذلك الأمر بالنسبة لتولستوي الذي يبدو أن له نواة من سلالة أدبية لعلّ فلوبير وباسترناك وتوماس مان من أفرادها، ومن الصعب أن نعرف بالضبط إلى من سننسب تولستوي نفسه!.
أما إذا ذهبنا إلى آراء أنصار السلالات في الأدب والفن، وأبرزهم الناقد الكندي الشهير نورثروب فراي الذي يرى أن القصيدة دائماً هي محاكاة لقصائد أخرى، وكلّ ما يضيفه الشاعر ليس إلا انزياحاً بسيطاً عن الأصل، ومهمة الناقد أن يتتبع الأصول ويكشف مقدار الانزياح! ولا يتوقف الأمر عند فراي على الشعر، بل يرى أن كلّ ما له شكل يكون شكله أسطورياً ويقودنا إلى مركز نظام الكلمات.
الناقد هارولد بلوم صاحب نظرية قلق التأثر، وأنساق القراءات الضالة يؤكد علاقة الشاعر مع الأسلاف، ومحاولاته لإخفاء أرومته الأدبية، فهو يرى أن المؤثرات الشعرية متاهة لم يبدأ نقدنا باستكشافها، ويستشهد ببورخيس مؤلف كتاب «المتاهة» الذي يقول: “في مفردات النقاد، لامناص من كلمة «سلف» لكنها ينبغي أن تنظف من كل المعاني الملحقة بفعل المنافسة أو المناظرات الحادة”، ويرى بورخيس أن كلّ كاتب يخلق بإرادته أسلافه الخاصين. يتقبل بلوم خلق الشاعر لأسلافه كنقطة انطلاق، لكن علاقة الشاعر بأسلافه لا يمكن أن تنظف من المناظرات والمنافسة، وأن العلاقة لا تنقطع بين الأقوياء من السابقين واللاحقين. لبورخيس مقال طريف بعنوان: «كافكا وأسلافه» جاء فيه: إنه استطاع أن يرصد ثلاثة نصوص تأسيسية من آداب وعصور متباينة، أولى هذه النصوص: مفارقة زينون الإيلي ضد الحركة، النص الثاني لكاتب صيني من القرن التاسع يدعى «هان يو» النص الثالث من كتابات كريكجارد القصصية.
في أدبنا العربي، يمكن أن نلحظ: علاقة نزار قباني بعمر بن أبي ربيعة، أدونيس بأبي تمام، محمود درويش بالمتنبي، هؤلاء الشعراء (الأقوياء) لهم سلالاتهم الواضحة، والنقد الحديث يُعطي أهمية لهذا الأمر من أجل فهم مثالي للشعر.