صالح هواري.. انتفض على السيّاب وأعادَ الإيقاع إلى مجراه
صاحب تجربة واسعة وعميقة في مدارات الكلم ومعاندة القوافي، وما زال يصدح مُنشداً لفلسطين منذ زمنٍ بعيد وقد سحرته أناشيده التي طيّرها عبر الأثير، والتي كانت تغزو سمعه من خلال برنامج صوت فلسطين من إذاعة دمشق “كل شيء للوطن، كل شيء للقضية، ليس للروح ثمن فهي للأرض الأبية” قدّم د. أحمد علي محمد قراءة نقدية في تجربة الشاعر صالح هواري من خلال ندوة عقدها مؤخراً اتحاد الكتاب العرب– فرع دمشق وأدارها د. إبراهيم زعرور.
حد القصيد
أوضح د. أحمد علي محمد أن أناشيد هواري جزء من التكوين الشعري وألصق بطبيعته، ولأن النشيد منبته الغنائية كتب هواري القصيدة التي نبتت من صميم الحاجة الغنائية، حيث العلاقة بين القصيدة والنشيد هي علاقة الأخ الكبير بالأصغر، فالكبير ممتلئ ومتعب ومتثاقل وعميق وكتوم، أما الصغير فهو منطلق وخفيف وقلبه مفتوح وطلق ويبوح بكل شيء، مبيناً أن هواري جعل الفارق يقلّ بين بعض أناشيده وقصائده حيث اللغة تقريباً نفسها والتقنية كذلك، وهو يفعل كل ذلك بطرق التحكم بالإيقاع لتكون النتيجة ارتفاعاً بالنشيد إلى أعتاب القصيدة، وقد ظهر ذلك بوضوح في نصه “قف عند حدّك”: قف عند حدك، لا تجازف، أو فجازف، مُت أو لا تمت إلا كسهم الضوء واقفٌ”. وتوقف محمد في قراءته أيضاً عند مختارات هواري “ولا عين شكي”، مبيناً أنها انطوت على قصائد وأناشيد متأرجحة بين العمودي وشعر التفعيلة، وبين الصمت الإيقاعي والرنين، إلا أن روحاً متوثبة تنبعثُ برأي محمد من قصائده لتشي بروح طفولية مبهجة من خلال إيقاعات اللغة أولاً التي دعمها بالعبارات التلقائية والمسكوكات الكلامية بعد معالجتها إيقاعياً، وهذا ما زاد من رصيده الشعري وأناشيده على حدّ سواء، يُضاف إلى ذلك إفراغه زاداً عاطفياً على التراكيب حتى ترى كلماته ناطقة وقصائده مترعة بأنفاس العاطفة.
ذاتية متمردة
ورأى محمد أن أهم الظواهر الشعرية في شعر هواري الذاتية المغامرة، كما في قوله “ولأنك المعنى الذي أحتارُ في تفسيره سيظلُّ حبك غامضاً في معجمي”، مؤكداً أن هواري انتفضَ على انتفاضة السيّاب على العمودي، بمعنى أنه أعادَ الإيقاع إلى مجراه ثم عالج اللغة معالجةً ذاتيةً لم ينتبه إليها زعماء قصيدة التفعيلة، وقد عمل كل ذلك مستجيراً بمقدرة شعرية مدهشة. ونوّه محمد بأنه ومهما تعالت الذاتية وتعاظمتْ عند هواري فلا خلاص فردياً له إلا في ضوء الفكرة المركزية التي نذر نفسه لها وهو يتحرك في أتون همّ عام تنبثق منه ذاتية متمردة، مشيراً إلى أن هواري صاحب تكنيك شعري يستحيل علامة أسلوبية فارقة لشعره كله، وتستحكم في تكنيكه للقصيدة ثلاثة عناصر جوهرية: الأول هو التكثيف المعتدل دون بلوغ الضغط العالي على العبارة الشعرية، لذلك نراه انسيابياً في اللغة، رقراقاً في التراكيب، قليل التوتر والانفعال لأنه ماهر في ضبط انفعالاته. والثاني هو تحويل المُستهلك الكلامي الشفاهي إلى لغة شعرية “لا هو باختيارك، لا هو باختياري” فهذا التركيب وأشباهه علامة أسلوبية فارقة لشعره، فهو يزيح الفارق بين لغة الألسنة الشفاهية ولغة الشعر، فبناء التركيب عنده تماماً كما تقولها العامة في أحاديثها ودرجة فصاحة العبارة هي في الحدّ الأدنى أيْ ليست عامية وليست على مستوى عال من الفصاحة. والثالث هو الانتهاك اللغوي المقصود، وهو توالي الصيغ الفاعلة كقوله “باختيارك أنت” فالكاف للخطاب وهي ضمير، وأنت ضمير المُخاطب.
هي الدنيا
وتوقف محمد في قراءته النقدية أيضاً عند قصيدة “هي الدنيا”، مبيناً أنها نص عمودي كامل، غلبت عليه فتنة الصوغ من لدن شاعر ذي تجربة واسعة، وقد أكمل في القصيدة الوصف المرفولوجي الذي لخّص فيه حال الدنيا في الغواية والخداع والإغراء والتبصر والحب، لتمسي حبلى بالدلالات والإيحاءات التي صاغها في قالب وزني صادح بإيقاع رهيف، مشيراً إلى لغة النص والتكرار الحلو الذي لبس إيقاعاً بمقاسه تماماً، وهذه صنعة هوّاري “توجع في دم الوجع” حيث لا يمكن فيها من خلال تجربة الاستبدال، استبدال كلمة بكلمة أخرى،حيث الشاعر هنا طلب الإيقاع مع الشدة الصوتية لمعادلة الإحساس الأليم، وهو إيقاع يساوي الدلالة وينسجم مع التلفظ لبحث توازن صوتي دلالي “توجع الوجع” ومن ثم فهو تركيب شعري بامتياز برأي محمد.. لتختتم الندوة بقراءة الشاعر صالح هواري لمجموعة من قصائده.
أمينة عباس