بعد مرور 48 عاماً.. مازالت حرب تشرين تاريخاً للسوريين
لم تكن حرب تشرين التحريرية مجرّد صفحة وطويت من التاريخ السوري الحديث، بل كانت زاداً لشعب آمن بالله وبالوطن، وكانت درساً في التلاحم بين أبناء الشعب الواحد بمختلف أطيافهم، وعند تهديد أمن الوطن واستقراره ماذا بوسع الشاعر والكاتب والملحن والمطرب أن يفعلوا سوى التقاط اللحظات الأكثر توهجاً في ضمير الأمة وترجمتها كلمة ولحناً وصوتاً، حيث يؤلف هؤلاء سيمفونية رائعة في حب الوطن تطير عبر الفضاءات دون إذن مرور أو جوازات، وتستمر في طيرانها رغم كثافة النيران ولا تمنع من الهبوط في أي مكان، وتبقى عبر الدهور والأزمان تؤرخ اللحظة التاريخية التي يمر بها الوطن، وتبقى وصية يحفظها الأبناء ويردّدها الأحفاد، فكانت الأغنية الوطنية في السبعينيات لها تأثير الرصاصة في المعركة، ولعبت دورها في تعزيز الوجدان الشعبي والإحساس بالتمازج مع الأرض، كما جسّدت القيم والمعاني التي طالما تمسكنا بها على مر التاريخ، فالفن باختلاف أشكاله يؤلّف وحدة متكاملة لتكون رسالة تصل إلى القلب. فمثلاً من يسمع أغنية “سورية يا حبيبتي” عندما تألق الثلاثي الجميل محمد سلمان ونجاح سلام ومحمد جمال، ويرى أجمل صورة للتآخي والحسّ الوطني العروبي في الأغنية، لا بد لذاكرته من أن تعود به لأجواء حرب تشرين التحريرية التي أصبحت علامة فارقة ملازمة لتلك المرحلة، مع القدرة على النفاذ إلى مراحل مشابهة تستدعي الدعوة لرص الصفوف والوقوف جنباً إلى جنب في خندق الدفاع عن كيان الوطن وترابه ومكوناته الإنسانية والفكرية والطبيعية والاستراتيجية.
في حرب تشرين التحريرية، دخلت الأغنية القلوب قبل الأذان دونما استئذان حاملة الفرح الحقيقي للناس، فكانت كنوع من العزف المنفرد على وتر قلب الوطن، سلسلة طويلة تكاد لا تنتهي من الأغاني الوطنية التي عاشت في وجدان الشعب السوري لتكون سنداً معنوياً حقيقياً في الأزمات التي عصفت ومازالت تعصف بوطننا ومحركاً عاطفياً فعالاً وداعماً لقوة الشعب في الدفاع عن وطنه والحفاظ على وحدته الجغرافية والإنسانية، مع أثرها ودورها في تجسيد اللحمة الوطنية، فكانت تشكل مكاناً آمناً يلجأ إليه الجميع في الأوقات الحرجة، لأن كل من يؤمن بهذا الوطن سيلجأ إلى كلمة تعبّر عن انتمائه وحبه وتماهيه مع ترابه، فهي تشكل قاسماً وجدانياً مشتركاً عند الجميع ومساحة لا يساوم عليها أحد على الإطلاق.
مصطلحات حربية تشرينية
انتشرت في فترة حرب تشرين والمرحلة اللاحقة لها الكثير من الأغنيات الشعبية التي ما زال القسم الأكبر منها على ألسنة المتقدمين والمتوسطين بالعمر، مثل “ادلّع يا صاروخ وعروستك فانتوم”، وفانتوم نوع من الطائرات الصهيونية التي كانت تتهاوى أمام صواريخ (سام) السورية كتساقط الذباب في العيران كما يقولون، وأغنية “يا رامي ع الميم طه لا تخلّي طيار صهيوني جوّك يعلاه إلا يصفّي نار”، والمقصود بالميم طه مضادات الطيران، أو أغنية “يا أرض بلادي الغنية.. بزنود السمر القوية.. وكرمالك يا أرض بلادي.. رح اتخصص مدفعية” وغير ذلك من الأغنيات الشعبية التي ما زالت حاضرة في الذاكرة حتى الآن.
تاريخ للسوريين
الأعمق من هذا كلّه في وجدان الشعب العربي السوري –وبعد مرور 48 عاماً- هو أن هذه الحرب شكّلت فعلاً بداية تاريخ جديد بالنسبة للسوريين كافة، ولا نتحدث هنا عن ذاكرة المثقفين أو المهتمين فقط، وإنما عن الإنسان العادي البسيط حيث ينسب الأمور إلى هذه الحرب فيقول حتى الآن: (قبل حرب تشرين أو بعد حرب تشرين)، وهذا يدلّ بشكل واضح على عمق تأثير هذه الحرب في تكوين الإنسان العربي السوري.
حرب تشرين كانت بداية تاريخ للسوريين على وجه التحديد، لأنهم ما زالوا يعيشون مجد تلك الحرب وينظرون بعين الفخر والاعتزاز إلى أيامها العزيزة ونتائجها الكبيرة، وينحنون بإجلال وتواضع للرجال الذين صنعوا الفخر في تشرين رجال الجيش العربي السوري الباسل الذي سطّر أكبر ملاحم البطولة في تلك الحرب.
سلوك جميل
كرّست حرب تشرين التحريرية عدة سلوكيات، منها الاجتماعي ومنها العفوي المعبّر عن الكثير من الاحترام والتقدير والعرفان بالجميل لأفراد الجيش العربي السوري، فما إن يحضر أي شخص يرتدي اللباس العسكري إلى فرن أو محل سمانة أو مكان آخر حتى يفسح له الجميع في المجال، وما إن يرى صاحب سيارة أي شخص ببزته العسكرية حتى يتوقف وينقله معه، والكثير من الآباء عندما يريدون تكريم أبنائهم كانوا يخيطون لهم ملابس عسكرية ويضعون على أكتافهم الرتب فيمشون مزهوين بها.
جُمان بركات