حرب تشرين.. أزالت آثار النكسة وحطّمت أسطورة جيش لا يقهر
د. معن منيف سليمان
حطّمت حرب تشرين حاجز العجز الذي حاولت الدعاية الصهيونية رسمه إثر نكسة حزيران عام 1967، بالانتصار العسكري الذي حملته الحرب، وتفوق العقل العربي في التخطيط والأداء، وتبدّد الإحساس العميق بالمرارة الذي تغلغل في أعماق الجماهير العربية وكاد أن يخيّم على الأمة، حين أثبت العرب قدرتهم على مواجهة القوة العنصرية الاستيطانية المعتدية التي استهدفت وجودهم القومي.
كانت تلك الحرب الخالدة ثمرة جهود حثيثة وعمل جاد واستعدادات دؤوبة من قبل جيشي سورية ومصر، إذ عمل البلدان منذ نكسة حزيران عام 1967، لإزالة آثار العدوان بعدما تمادى العدو في غطرسته وبالغ في تقدير قوته العسكرية مقابل استخفافه بالعرب وقدراتهم، وهذا ما عبّر عنه بعض قادة كيان العدو في عدة مناسبات، فـ”ايغال آلون” لم يتوانَ عن التبجح في نهاية عام 1973، بأن محاولة المصريين عبور قناة السويس سوف تكلفهم خسارة (75) بالمئة من قوتهم، في حين ستجبر باقي القوات على التراجع، وقال أيضاً: “إنه ليس باستطاعة الجيوش العربية الحصول على دونم واحد من الأرض بقوة السلاح”، أما وزير الحرب موشيه ديان فقد ذكر في عام 1972: “أن الجيش المصري سيجد نفسه في حفرة كبيرة تتناثر فيها معداته العسكرية عند محاولته عبور قناة السويس، وهذا أمر بعيد الاحتمال”.
ومن هنا بات من الواجب، لا بل من المفروض على العرب توفير جميع المقومات العسكرية والاقتصادية والتعبوية اللازمة للقيام بعمل ينتقل من خلاله العرب إلى حالة أخرى تُمحى فيها ظلال نكسة عدوان حزيران عام 1967. ففي إطار الاستعداد لخوض معركة مواجهة مع العدو الإسرائيلي وضعت القيادتان السورية والمصرية خططاً محكمة لمفاجأة العدو، وقد تجلّى ذلك بوضوح في تقارير أجهزة الاستخبارات الأمريكية عندما طلب إليها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي، إعطاءه تقارير دقيقة عن الوضع في المنطقة في الأسبوع الذي سبق الحرب، وكانت الإجابات كلها تشير إلى استبعاد اندلاع القتال في الشرق الأوسط في القريب العاجل، وكان آخر هذه التقارير يوم الجمعة 5/10/1973، حيث كان الجواب بالإجماع عدم توقع اندلاع الحرب في الشرق الأوسط في الوقت الراهن.
ومن جهة العدو الإسرائيلي، فقد استبعدت القيادات الصهيونية فكرة قيام حرب على الرغم من كل التقارير والمعلومات التي كانت ترد إليها، وتشير بمجملها إلى الاستعدادات العسكرية العربية في كلّ من سورية ومصر، وهذا ما ذكرته “غولدا مائير”، رئيسة وزراء العدو وقتذاك، في لقاء صحفي بعد الحرب فقالت: “إننا كنا على علم تام بالاستعدادات العربية”. وقد أوضح ذلك القائد المؤسّس حافظ الأسد حين قال: “أريد أن أوضح نقطة مهمة لا يجوز أن تظل غامضة على الذين يريدون أن يؤرخوا حرب تشرين بتجرد وموضوعية، وهي أن الهجوم العربي لم يكن مباغتاً تماماً للعدو، وهذا ما عرفناه من إفادات الأسرى الذين أجمعوا على أن قيادتهم عرفت بالهجوم قبل وقوعه، لكن يبدو أن غطرسة العدو واستخفافه بالعرب جعلاه لا يستوعب التقديرات الجديدة للرّد العربي على تماديه في سياسته العدوانية التوسعية التي بلغت حدود المعقول”.
وعلى كل حال، تمكّن العرب على الرغم من هذه الظروف الصعبة التي فرضتها النكسة من تحديد زمان ومكان الهجوم، فكان يوم 6/10/1973، في تمام الساعة الثانية وخمس دقائق ظهراً زمان بدء الهجوم المشترك على الجبهتين السورية والمصرية، حيث تمكنت القوات السورية من اجتياز “خط آلون” وتحصيناته في الجولان، والتقدم على ثلاثة محاور، في حين تمكنت القوات المصرية من عبور قناة السويس وإقامة مراكز ونقاط استناد لها على الضفة الشرقية للقناة. وبدت مظاهر الانهيار على القيادة السياسية والعسكرية الإسرائيلية، ومؤكد أن الحرب كانت ستأخذ مساراً مختلفاً لولا التدخل الأمريكي الغربي المباشر الذي حال دون الانهيار الكامل للجيش الصهيوني.
فعندما نشبت حرب تشرين عام 1973، كانت هناك قوتان عظميان في العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وقد كان لهما مواقف معلنة من الحرب، على الرغم من تبني كلّ منهما لسياسة الانفراج الدولي، وكاد تدخل الدولتين والتحركات العسكرية لقواتهما خلال مراحل الحرب أن ينذر بنشوب حرب عالمية ثالثة.
أما على صعيد الأمم المتحدة فقد صادق مجلس الأمن على مشروع القرار الأمريكي- السوفييتي المشترك بقراره رقم /338/ الخاص بوقف إطلاق النار على جبهات القتال في سيناء والجولان خلال /12/ ساعة من إعلانه في تمام الساعة السادسة واثنتين وخمسين دقيقة صباح يوم 22/10/1973، وقد وافقت “إسرائيل” على قبول تنفيذه مباشرة. وبحلول موعد تنفيذ القرار في الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم التزم الطرفان المصري والإسرائيلي بوقف إطلاق النار، في حين استمر القتال على الجبهة السورية، رافق ذلك خرق لإطلاق النار على الجبهة المصرية في اليوم التالي من قبل القوات الإسرائيلية، ما استوجب إصدار القرار رقم /339/ المؤكد لوقف إطلاق النار وانسحاب قوات الطرفين المصري والإسرائيلي إلى الخطوط ما قبل الساعة السابعة من مساء 22/6/1973، ومع استمرار “إسرائيل” في خرق إطلاق النار للمرة الثالثة، صدر القرار رقم /340/ الذي يدعو إلى الامتثال للقرارين (338 و339) والعودة إلى خطوط 22/10/1973، وزيادة عدد المراقبين الدوليين في المنطقة وإنشاء قوة طوارئ من الدول غير دائمة العضوية في مجلس الأمن، على أن يتمّ تنفيذ ذلك فوراً بمساعدة الأعضاء كافة في المنظمة الدولية.
أما على الجبهة السورية، فقد أبلغت سورية في صباح يوم 24/10/1973، الأمين العام للأمم المتحدة موافقتها على قرار مجلس الأمن رقم /338/، وربطت ذلك بإلزام “إسرائيل” الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة في عام 1967، وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وقد قرنت سورية موافقتها بتقيّد “إسرائيل” بوقف إطلاق النار، مع التأكيد على استعداد القوات المسلحة السورية لاستمرار القتال عند الضرورة.
كانت سورية تعرف أن قرار مجلس الأمن لا يتبنى الأهداف العربية التي حارب العرب من أجلها، كما كانت تعرف في الوقت نفسه أن أي قرار سياسي هو انعكاس لميزان القوى على النطاقين الإقليمي والدولي، وللظروف الموضوعية والعوامل الذاتية التي نجم عنها، وهو بهذا المعنى لا يمكن النظر إليه على أنه شيء دائم، ولكنه خطوة على الطريق يتحقّق فيها الهدف المرحلي للنضال العربي ويهيئ الظروف الأكثر مواءمة لمواصلة السير على طريق تحقيق الأهداف البعيدة.
كانت حرب تشرين الأول عام 1973، من أبرز الأحداث التاريخية في التاريخ العربي المعاصر نظراً لمنعكساتها ونتائجها العسكرية والاقتصادية والسياسية. فقد نجح العرب في تحطيم مبدأ التفوق العسكري الإسرائيلي، وانتزاع زمام المبادرة من العدو باتخاذ قرار شنّ الحرب المفاجئة، ومنّي العدو بخسائر فادحة في الأرواح والمعدات، بعد أن كانت “إسرائيل” هي التي تختار زمان الأعمال العسكرية ومكانها، وتحدّد وحدها من جانبها أبعاد الصدامات المسلحة، وتظهر آثار تحطيم العرب لمبدأ التفوق الإسرائيلي واضحة في كلام أحد قادة دبابات العدو يصف وضعه: “أنت تسير بدبابتك في ثقة وطمأنينة، يظهر أمامك على بعد مئتي ياردة شخص بمفرده يحمل ما يشبه العصا ولا يمكنك أن تصدق أن شخصاً واحداً يستطيع وحده تدمير آلية مدرعة ضخمة، غير أن الدبابة تتحوّل إلى حطام في غضون ثوان معدودة”.