الأدب المقاوم.. فلسطين والجولان أنموذجاً
أدب المقاومة هو الكتابة الأدبية المعبّرة عن الحروب والمعارك ومقاومة العدو، وذلك لأن الأدب يجد في تجربة الحروب وما تفرزه من مسارات جديدة في التجربة الإنسانية ما يثري ويعمق آفاقها، ويعبّر هذا اللون عن القهر والاستبداد الذي تعانيه الشعوب تحت العدوان والاحتلال، ومن ثم ترسيخ فكرة المقاومة للعدو سواء كان شخصاً أو فكرة، وانطلاقاً من أهمية هذا الموضوع وبمناسبة الذكرى الثامنة والأربعين لحرب تشرين التحريرية أقام فرع القنيطرة لاتحاد الكتّاب العرب ندوة بعنوان “الأدب المقاوم.. فلسطين والجولان أنموذجاً” والتي أدارها د. جمال أبو سمرة.
الفضاء الجولاني
أفردت الدراسات النقدية حيّزاً كبيراً للبحث في أهمية المكان في الرواية، ونشر مؤرخو الأدب أبحاثاً وكتباً عدة تناولت مصطلحات كثيرة، حتى أن بعض النقاد ذهبوا إلى القول: “إن العمل الأدبي حين يفتقد المكانية، فهو يفقد خصوصيته وبالتالي أصالته”، بهذا بدأ الكاتب والناقد عمر جمعة محاضرته التي كانت بعنوان “حضور الجولان في الرواية السورية المعاصرة” حيث ذكر العديد من الأعمال التي تناولت الجولان في صفحاتها، ومنها رواية “أبعد من نهار.. دفاتر الزفتية” للكاتب أيمن الحسن التي كانت محور محاضرته، مؤكداً أن الكاتب ينزع إلى استعادة هذا المكان (الفردوس) المفقود، عبر حكايات يوزعها بوعي العارف بين أمكنة عدة، تأتلف في قداستها وتختلف في جغرافيتها بين دمشق “الزفتية” ببيوتها الطارئة وأزقتها الملتوية الموحلة، والقنيطرة بشخصياتها “عزمي، مريم، حازم، نجاة، مهران، أم عايد، تايه، أم الجاج، أبو محروس، أبو مهيب، أم محروس.”.
ويتابع جمعة قائلاً: “وفي سعي محموم لتبيان الجريمة الكبرى التي ارتُكبت بحق الجولان عموماً والقنيطرة خصوصاً منذ احتلاله عام 1967 وحتى تدمير المدينة قبيل اندحار الصهاينة منها بعد حرب تشرين عام 1973، “أبعد من نهار” تقف عند لحظة فارقة للتنبيه إلى فداحة هذه الجريمة، والتي لم تجهض الرغبة بالعودة عند الأغلب الأعمّ من أبناء الجولان المحتل، وهم يرون ما فعلته الأيادي الآثمة ببيوتهم وذكرياتهم. ويصرّ الكاتب أيمن الحسن في فصول روايته على إنشاء حوار بين جيلين، أولاً للتأكيد على فداحة الجريمة، وثانياً كي يكون الجيل القادم أميناً على هذه الأماكن والبيوت التي تروي وجعها، ولئن اكتفت بعض الأعمال الروائية التي عرضت للجولان ومأساة أهله باستدعاء أمكنة محلومة، فإن أيمن الحسن سيبدو أكثر واقعية وهو يصف الجولان ومكانته التاريخية والحكايات والأساطير، والوقائع المقدّسة التي شهدتها أرضه”.
ويختم جمعة: هذه الرواية لم تكن مغلقة على الفضاء الجولاني وحسب، بل امتدت حتى وصلت إلى ضفاف الفرات، لنكتشف فلسفة أيمن الحسن في توظيف المكان والجهر بوحدته، فكما من الصعب أن يتحدث النازح عن أرضه دون تذكّر الماضي، وأن يفكر بالمستقبل دون أرضه التي سُلبت منه، ها هو وفي بوح شجي ينبض بالحزن أيضاً لمكان مفقود يحنّ إليه يهجس: “يا أنا هذا الغريب ابتعد عن قريته الشمالية منذ الطفولة، فعاش وحيداً، لا حضن دافئاً يسند إليه رأسه.. لا مكان”.
الآخر البعيد
اخترت محمود درويش لأنه الأقرب إلى فهم المتلقي العالمي ويمكن ترجمته بشكل أفضل، متى سننطلق نحو الآخر البعيد؟!، إيصال أصوات المعاناة إلى الخارج مشكلة.
هذه الجمل تقريباً هي مختصر ما تحدث عنه الأديب سامر منصور في محاضرته التي كانت بعنوان “قصائد محمود درويش الأنقى للنضال”، حيث يرى أن الصراع بين المجتمعات في العصر الحديث هو صراع مؤسسات ضد مؤسسات، وأن العدو الصهيوني يتحدث لغة الأرقام والإحصائيات والتي يقابلها على الأرض الهدم والتدمير لأحياء كاملة، بينما مازالت فلسطين تقدم الشهيد أو الفدائي كما يقدم فارس القبيلة، ويتمّ التهليل للبطولات الفردية وهي على نبلها وعظمتها وأهميتها غير مجدية بشكل كافٍ في صراع العصر هذا. تأتي أهمية الشعر والآداب في تعرية وفضح الأنظمة العربية، ورفع عتبة الوعي الجمعي والشرط الأساسي في صراع البقاء لأي كائن هي مقدرته على إنماء ذاته وأن يكون سليماً ما أمكن، فنحن في غابة فإما أن تكون الأقوى وتنجح في صراع البقاء أو لا.
يقول منصور: الشاعر نزار قباني يصف حالة العرب منتقداً، مازلنا نذهب إلى الحرب بالطبل والزمر كما في حروب الجاهلية، وما الشعراء إلا جزء من هذه الطبول التي تشوش الوعي الجمعي للعاطفة، وكما قال جبران خليل جبران: فكرة أوجدت الأهرامات وعاطفة هدمت طروادة.
هل كان محمود درويش حالة مفارقة عن الشعراء الذين يلتبسون الشوفينية ويسقطون حالة طوباوية على الإنسان الفلسطيني؟، إن عيوب الذهنية العربية التي لن نحقق النصر دون التخلص منها هي الشوفينية والإعلاء غير المبرّر للذات والوهم أن البطولة الفردية قادرة على نصر أمة كاملة، ومن جهة أخرى الذهنية التفاوضية عوضاً عن الذهنية التكاملية.
ويتابع منصور قائلاً: إن تكريس الذهنية التكاملية تجلّى عند درويش عندما كتب عن العملية الإبداعية، فهو كتب عن مشروعه الإبداعي وفق رؤية تكاملية متحررة من الأيديولوجية الثقيلة، ومن علل آلية تفكير المجتمعات العربية، استطاع درويش أن يذهب في مناح عدة بتجربته الشعرية إلى أبعاد كثيرة من خلالها ابتعد عن الطوباوية وأنسن الفلسطيني وبالتالي يصبح أقرب إلى المتلقي، درويش أتى بشيء جديد، فحالة النجومية لم تكن مألوفة في عالم الشعر، وهو استقى الحالة النفسية وطريقة الكلام والتكرار والإصرار من شرائح متنوعة.
استطاع درويش أن يخرج عن ذهنية القصيدة العربية المرتبطة بالشوفينية التي تمارسها الأنظمة العربية لأنها تتبع الخطاب التعبوي والشعر الحماسي، استطاع أن يجاور ويزاوج بمهارة بين الأمل والألم، أعاد العربي والفلسطيني إلى مربع الإنسان متحدثاً عن آلامه الإنسانية، أخرجه من الحالة غير المفهومة في هذا العصر، بعيداً عن العرف بأننا أصحاب الحق وبالتالي نحن الملائكة في مواجهة الشياطين ونحن المقدّسين والمنزهين والأقوياء.
عُلا أحمد