مجلة البعث الأسبوعية

الراحل ممدوح عدوان مدافعاً عن الجنون.. الوجه الآخر للحقيقة!!

“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس

“دفاعاً عن الجنون” عنوان كتاب للأديب الراحل ممدوح عدوان، صادر عن وزارة الثقافة ودار البعث، وهو عبارة عن مجموعة مقالات يقدم لها مؤلفها بعبارات تختصر مضمونها فيقول: “ربما تعطي هذه المقالات صورة عن وضع المثقف في هذه الحقبة من الزمان، وعلى هذه البقعة من الأرض، في الوقت الذي تعكس فيه آراءه بمشكلات أو طروحات وأحداث وأشخاص”.

يحتفل عدوان في مقالته الأولى بالجنون كوجه آخر للعقل وصورة مثلى للحقيقة، فيشبه جنون الإنسان بصرخة الطفل التي تشير إلى نفاقهم ومراءاتهم، فالطفل يرى الحياة على حقيقتها دون رتوش أو تلوينات، ودون تبرير لهذه الرؤية. ومن هنا فإن في أعماق كل فنان طفل صادق لأبعد درجات الصدق، ويستشهد بحالة الفنان لؤي كيالي الذي امتلك جرأة إعلانه جنونه من هذا العالم البائس دون أن يهتم لرأي الآخرين وموقفهم منه.

الاعتراف بما يدور في دواخلنا، وجرأتنا على مواجهة ذواتنا بانكساراتها وهزائمها، وبعدم حيلتنا في الوصول إلى مصالحة معها، أمر يجعلنا نخرج عن طوعنا؛ والفنان شخص يشعر بإنسانيته وكرامته وحقه بالحياة بأبعادها الطبيعية وليس المدجَّنة، وهذا ما يميزه عن الآخرين برؤيته وأفكاره ضمن نطاق إنسانيته. وجنون الفنان، من وجهة نظر المؤلف، حالة طبيعية للإنسان قبل أن يكون فناناً، وهو حالة طبيعية من حالات الرفض لما يتفشى في المجتمع من كذب وانهيارات للقيم والأخلاق، فصدق الفنان مع نفسه يجعله أحياناً بحالة قطيعة مع الناس.

ويرى عدوان أن لؤي كيالي لم يوظف جنونه في خدمة فنه، لكن رؤيته لواقع البؤس الذي يعيشه الناس، والذي لم يكن ليراه سابقاً، أحدث في داخله هزة نفسية، إذ اكتشف حجم المهانة التي تعيشها الإنسانية مما أحدث تحولاً في حياته وفنه الذي كرسه لخدمة قضايا هذه الجماهير البائسة، والتي كان مدركاً أنها لن تهتم لفنه، ولن تشتري لوحات معرضه الذي أقامه كتعبير عن تضامنه مع هؤلاء البؤساء؛ وهذا التحول في إبداع لؤي وتفكيره قوبل بالهجوم من قبل جمهوره وعالمه الذي كان يعيش فيه سابقاً، وابتعد عنه.    وقد كانت مطالبة الفنان بكشف سوء الواقع بفنه؛ ولكن قصور هذا الفن، بما يحمله من أفكار، عن فهم حيثيات الواقع الجديد، أنتج فناً تعبيرياً ضعيفاً، الأمر الذي جعله عرضة لهجمات لم يستطع مجابهتها والوقوف بوجهها، وإن عدم استيعاب لؤي لما يعيشه الشعب من مآس وبؤس، ومفاجأته بانهزام الأنظمة السياسية التي تبنت خلاص هذا الشعب، أفقده توازنه مع عالمه الداخلي، وكانت النتيجة أن مات لؤي كيالي محترقاً، كما عاش محترقاً.

وفي مقالة “بين الشعر والقراء”، يدعو المؤلف المبدعين للكتابة خارج سطوة الرقيب ونظرة المتلقي وحكمه على النتاج الأدبي، ويرى للشعر وظيفة واحدة هي “الدفاع عن إنسانية الإنسان في هذا العالم”، حسب قول الشاعر فوزنيسنسكي. ومن وجهة نظر المؤلف، فإن صفاء الفنان هو الوجه الآخر لعكر العالم، وتصادم هذين العالمين يولد الفن الذي يضيء على سلبيات الواقع، فالفن يعيش بالقضايا العميقة، وقيمة الشعر تتحدد بصفاء الذات المولدة للشعر، وبمدى مقدرتها على أن تكون التربة التي تحوي جذور الناس، والفن الذي لا يصل للناس هو فن فاقد لقيمته ومعناه.

ويختم المؤلف مقالته هذه بفكرة مؤداها أنه في هذا الزمن الرديء أقيم جدار بين فكر الجيل والفنان، وتم تسطيح النتاج الأدبي لهذه المرحلة، لا أن يساهم في وعي الناس أو تطور الفن.

ويؤكد الأديب عدوان في مقالته “لابد من الشعر” على ضرورة وجود الشعر في عالم قائم على المتناقضات، وهنا يشير إلى فئتين من الشعراء: فئة تطمح إلى تغيير العالم، وفئة أخرى تساهم في تكريس تناقضاته وإشكالاته، لكنه في الوقت نفسه يرى أن تغيير العالم ليس عملاً آنياً ومؤقتاً، وقد لا يكون ممكناً الآن، فالشعر هو حلم البشرية بإمكانياتها العقلية، هو ذلك الشيء العظيم الذي يؤكد أننا نبكي لأننا لم نتعود الذل، ولم نقبله، وينبهنا إلى أننا بشر، وأكبر وأعظم من يومياتنا، لهذا كان لابد من الشعر الذي يحاربه كثيرون لأنهم لايريدون لأرواحنا أن تشفى من تداعياتها وخيباتها.

وينظر المؤلف للمبدع كحال متكاملة منسجمة، لا ينفصل إبداعه عن شخصيته سواء بصدقه مع نفسه، أو بصدقه مع أفكاره التي يضمنها نتاجه الأدبي؛ ويعبر عن هذه الفكرة في مقالته “وهذا أنا أيضاً”، إذ على المبدع أن يكون متجدداً بإبداعه، وأن لايؤطر نفسه في إطار يعتاده الناس، لذلك يجب أن تكون هناك حالة دائمة ومستمرة من القلق الفني بما يتعلق بعلاقة المبدع مع الناس وبالقصيدة، ويرى أن الذين سطحوا الحياة سطحوا النظر إلى مفرداتها أيضاً، فأصبحنا لا نستطيع أن نرى في الإنسان أو الشاعر إلا الجانب الذي أحببناه وكرهناه، أو تعودنا عليه، لكنه يستدير قليلاً ليظهر جانباً آخر من نفسه وهو يقول: “هذا أنا أيضاً.

وفي مرافعة قدمت أمام محكمة الشعب الدولية في اليابان، حول جرائم الحرب التي اقترفتها إسرائيل في غزوها للبنان عام 1982، يتحدث المؤلف عن حرية الغرب المزيفة وديمقراطيته الكاذبة؛ ويرى أن دور الأديب يكمن في طرح القضايا الإنسانية ليسمعها العالم ويعرفها ضمن الضجة الدعائية للصهيونية الامبريالية العنصرية، التي يرى أن هذه المحكمة هي المنبر الذي من خلاله ترتفع أصوات الضحايا.

وفي “اعترافاته”، يقول عدوان: إن الناس لكثرة الجرائم وانتشارها أصبحوا أقل حساسية تجاهها خاصة حين تغلفها قضية سياسية، وإن براءة الذمة وعدم المسؤولية عن هذه القضايا هي الحل، لكن عجزه عن مواجهة هذه الأحداث جميعها يتجلى كحالة تعويضية تأتيه في الأحلام التي يرى نفسه فيها مليئاً بالحقد والانتقام لشعبه وعالمه وإنسانيته، وهنا يتجلى اعترافه الثاني.

أما اعترافه الثالث فيتعلق بالشعر وصدمته أنه لم يكتب في حياته إلا القليل من قصائد الحب والجمال والحياة، بل كانت قصائده مليئة بالدم والمآسي والغضب. ومع ذلك، لم يكن نادماً، بل عاش عمره مؤمناً بما قاله برتولد بريشت “إنها لجريمة أن تتحدث عن الأزهار الجميلة حين يكون هناك بشر يقتلون”.   وفي مقالته “النمور تتعلم الرسم”، يتطرق عدوان لفكرة الانتماء التي تستوجب من الإنسان أن يعيد النظر بقيمه المتوارثة، وامتلاك الجرأة على انتقاد هذه الموروثات التي تتنافى مع انتماءاتنا الفكرية، فليست هناك حقيقة ثابتة، وكل فكرة قابلة للنقاش وخاضعة لأكثر من احتمال، وقد أحدث هذا الكلام ثورة في عصر الحقائق الثابتة، إذ قاومها الفلاسفة الذين يدرّسون هذه الحقائق لتلامذتهم، مثلما قاومتها السلطات التي تريد أن تطمئن لثبات الحياة من حولها.

ويستشهد المؤلف بفكر الفلاسفة السفسطائيين الذين سعوا لتحرير الإنسان من الأعراف والتقاليد والقوى الخارجية، كما أشاروا إلى أن الإنسان هو الذي يصنع نفسه ومجتمعه بما يتلاءم وحاجاته، وإن المجتمع لا يقوم إلا على أساس العدالة والاحترام المتبادل، وأول من عارض فكرهم هذا وسخر منه “أفلاطون” سخرية مرة أساءت لمبادئهم التي لم يصلنا منها بسبب هذه السخرية إلا ما عبّر عنه أفلاطون في محاوراته، وهذا كان دلالة واضحة على أن التاريخ الثقافي لم يصلنا صحيحاً.

أما المسرح فقد كان عبارة عن طقس احتفالي يقدم المتعة والتسلية وتكريس الوضع السائد في العالم، حتى أن الصراع في المسرح كان يقوم على أفكار مجردة هي صراع الأضداد، ويحدد المؤلف مواصفات المسرح السياسي الذي يثير في الناس رفض الأمر الواقع، ويساعدهم على اكتشاف مساوئ الأوضاع السائدة من حولهم، وهذا ما يجعل المسرح وسيلة فضح وتحريض ضد العالم كما هو الآن، مسرح تحريض على الفعل وتعميق للوعي، وليس مسرح تنفيس عن الكبت والقهر، إنه المسرح الذي يخرج منه المتفرج مشحوناً بالرغبة في فعل شيء لتغيير الأوضاع المجحفة في هذا العالم.

ويؤكد المؤلف أن النمور بدأت تتعلم الرسم وتتعلم المطالبة بحقوقها دون أن تفقد قدرتها على الافتراس، كما أن اللوحات التي ستقدمها هذه النمور ستغير الكثير ليس في موضوعات الفن، بل في مقاييسه، فالرسم بالمخالب يختلف عن الرسم بالفرشاة الناعمة، فالرسم بالفرشاة مقولة فنية طرحها الصيادون والنمور غير ملزمين بها أو بالقيم الناجمة عنها، وأما القنيطرة ذلك الجرح النازف في الذاكرة والروح فيرسل إليها المؤلف كلمات عاجلة يقول فيها: أنا متعب وحزين وأنت دائي المزمن، وجوه الناس اللامبالية تنكأ جراحي، ولم أعد أدري ماذا أفعل بكل هذا الغضب والحزن، أكاد أمسك الناس أهزهم وأصيح في وجوههم، وقبل أن أفتح فمي تخنقني عيونهم، صرت أتوقع أن ينفجر غضبي من جبهتي، أنظر إلى العابرين فأراهم يحملون هزائمهم ويمضغون ذلهم كالقات، فلو أني أستطيع التصرف لعلقتك في أجفانهم وجعلتك قلقهم وأرقهم الذي لايهدأ.

وفي تأبين الأديب بوعلي ياسين، يقدم لنا صورة للمثقف الذي امتلك الجرأة أكثر من غيره في خرق الحاجز بين القول والكتابة، إذ بفضل وجود كتّاب مثل بوعلي ياسين، وغيره، كثير دبت الحياة في عقولنا وصرنا أقل حياداً تجاه العالم، وأكثر تهيؤاً للدفاع عن قناعاتنا في الحياة. ولأن بوعلي ياسين، مثله مثل كل كاتب حيوي مفكر ومتفاعل مع البشر، كان ابن الحياة، منخرطاً فيها، وكانت لديه الشجاعة والقدرة على أن يتطور ويراجع مقولاته ويجعلها أكثر التصاقاً بحرارة الحياة ومعطياتها، ذلك الرجل البسيط الذي كان يحلم أحلاماً عظيمة قد ذهب وظلت أحلامه، ومسؤولية من تبقى أن يصنعوا من هذه الأحلام مستقبلاً ويمنع الطغاة من تحويلها إلى كوابيس.

وفي رسالته التي يوجهها إلى الراحل سعيد حورانية، يستنكر موته الذي لم يمهله حتى يكمل رسالته، ويستحضر دماثة روح سعيد وفرحه الطفولي، فلا يجد إلا أن يسلّم بقضاء القدر في عزاء له أنه ما زال في هذه الدنيا من يبكينا فراقهم، ويشفعه بتساؤل عن دوام الحال وكم بقي من هؤلاء الأصدقاء.