القهوة رائحة الحكايات المعتقة.. جنوباً إلى الغروب شرقاً إلى الأناشيد!!
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
منذ اكتشف الإنسان القهوة وهي ترافقه مع يومياته وجلساته العائلية والاجتماعية والثقافية والإلكترونية، وتكاد تكون خير صديق لخير جليس، لعلها إحدى الإشارات المضمرة لبيت شعري للمتنبي: “أعز مكان في الدنى سرج سابح .. وخير جليس في الأنام كتاب”، فهي المعنى الأسود للكلمات البيضاء، وهي فسحة التأمل والجلوس مع الذات لكل أنيس. لكن، هل فكرّنا يوماً ماذا تغنّي القهوة وهي تغلي؟
ربما لن يعرف الإجابة إلاَ كبار السن أمثال أمّي رحمها الله: “كل السبب مني وبكل وادي جريت .. وكل عرق نبت مني بالنار انكويت”.
أصوغها كما الذهب
للقهوة موشحاتها وأشعارها وأشجانها ومواويلها وأغانيها التي تتداعى مع مزارعيها وقاطفيها وشاربيها وذكرياتها التي تفوح مع رائحتها وهي في المحمصة، أو المطحنة، أو على نار تغليها، لنجلس مع أنفسنا متأملين، أو لنجلس معاً، ونشربها، ونتغنّى بأحزاننا وأفراحنا ونحن نحاكيها؛ وكل مكان لا يحلو إلاّ بمعانيها، وهذا ما تصبح وتمسي عليه حلب، في كل شبر من أمكنتها ومنازلها وشرفاتها وأماكنها العامة، مثل حديقة العروبة، أو حديقة حلب العامة، أو القلعة، أو منطقة الشلالات، بينما النسائم تشتد حيناً وأوراق الأشجار تحتفظ بأحاديث الذين كانوا، وأحاديث العابرين، كما تحتفظ بذكريات الذين استشهدوا، وجُرحوا، وقصفوا، وبذكريات بائع القهوة الجوال الذي أصرّ أن أجرب قهوته التي يصنعها منذ ثلاثين عاماً معرفاً بنفسه:
أسمي عبد الرحمن نجار، أبو جوان، وحكايتي مع القهوة طويلة، فهي باب رزق لي، وأحبه، وأجيد صناعته، ونحن معشر بائعي القهوة نحسب أننا نصوغ ذهباً حين نصنع القهوة.
وتابع: أنا جدّ، ولدي أربعة أولاد.. صحيح أن القهوة مرّة، لكن كلامها حلو، خصوصاً وأن الفحم يحترق ببطء داخل هذا الإناء المعدني، لتظل القهوة دافئة، وتحتفظ بنكهتها المميزة.
نكهة سوداء وقلوب بيضاء
حدثني أبو جوان عن أبنائه الذين غادروا مع من غادر أثناء الحرب الإرهابية على سوريتنا الحبيبة، وكيف يصبح الإنسان عندما يكبر بحاجة لأن يرى أبناءه وأحفاده واقعياً لا افتراضياً، ثم أمال الإناء المعدني الذي يحمله ليريني الجمر المشتعل بجوفه كي يحافظ على حرارة القهوة.
كان الجمر المتفحمّ يشع بضوء نار لا خافتة ولا باهتة، وأنين اللهب أشبهَ بحبات البن داخل قشورها الحمراء المتدلية من أشجارها في أماكن زراعتها المختلفة، بينما رائحتها وهو يصبها تفوح بتدرجات الغسق المتجهة جنوباً إلى الغروب، وشرقاً إلى أناشيد تتغزل بطعمها المر، ولونها الأسود، وما تعكسه من مزاج أبيض يتلون مع لوحات الفنانين التشكيليين وهم يرسمون القهوة بدلالهم، كما يرسمها الشعراء بقصائدهم، ومن أجملها ما قاله محمود درويش: “أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي”.
هذا الحنين يبدو واضحاً على ملامح أهالي حلب وهم يتجولون، ويفترشون العشب، ويزدحمون في كل فسحة ممكنة، بينما بائع القهوة يسترسل بالكلام ويحكي أحداثاً تتشابه في حياة الناس اليومية وأحوالهم، وما يعانونه من الإرهاب والحصار، واثقين بالأمل القادم من منهجية العمل، سعداء بواقعهم، رغم الفقر، والوحدة، وانتظارهم لما تجود به البطاقة الذكية، متوقعين أن القادم أجمل، لأنهم انتصروا على جميع أشكال التوحش العالمية.. القادم أجمل لأن سوريتنا الحبيبة ستظل وطناً شامخاً عزيزاً عصياً منيعاً منتصراً، وسيظل السوريون الأحباء مرفوعي الرأس طالما آمنوا بوطنهم وحقم في الانتصار على الإرهاب، وفي الانتصار على التدمير بالبناء.
هكذا، أخبرني بائع القهوة المتجول في الحديقة، ثم مضى مع قهوته ليبيعها لأناس آخرين، وحين غادرت المكان، نسيتُ ظلي على الكرسي، قرب رائحة القهوة التي لم تصمت عن الكلام المباح، موقنة بأني سأعود لأحمل ظلي، أو يحملني ذات صباح.