بين الواقع والخيال
“البعث الأسبوعية” ــ سلوى عباس
في الأدب يتداخل الواقع مع الخيال، ولا يمكن التعامل مع كل واحد منهما على انفراد، فعالم البشر الداخلي معقد، ويختزن كتلة متشابكة من الأوهام والوساوس والأحلام يرزح الإنسان تحت ثقلها، ما يجعلها تنعكس تلقائياً على حياته، وقد تشوهها وتعيد تشكيلها على نحو آخر، والكاتب ينظر إلى الحياة بكليتها، لا يستبعد شيئاً، وهذه الفكرة تحتاج إلى خيال ليس كي تُستوعب فقط، بل وأن تصاغ ثانية بتشريحها وتكثيفها، وإيصالها إلى الهدف مهما كانت عميقة، أو تشوبها مسحة فلسفية. وبشكل عام، الخيال يذلل الكثير من إشكاليات العمل الروائي، ويجد لها الحلول، ويعطي الكاتب مساحة كبيرة من الحركة، فيما إذا أحسن استخدامها، فهل دور الكتابة أن تعكس الواقع وتصوره؟ أم أنها تسعى لما هو أفضل، وكيف يمكن لها أن تكون بناء لهذا الواقع المرتجى، بمعنى أننا لا نستطيع التعبير بواقعية فجة عن الواقع، لأن الواقع من التعقيد بحيث يختفي عن النظرة الأولى المسطحة، فعندما نتحدث عن التعقيدات الموجودة في الواقعية السحرية، نتساءل: أليس واقعنا سحرياً؟ أم لأننا اعتدنا على نوع من الرتابة اليومية لا نرى سحريته؟ وهذا السؤال يتضمن إجابته لأن حياتنا فيها الكثير من الغرائب والعجائب والصدف، ودور الكتابة أن تنظر إلى التفاصيل والخفايا الموجودة في الواقع، وإلى ما يحرك هذا الواقع من مخفيات.
ولكن، هل دور الروائي أن يتفوق على هذا الواقع روائياً؟ الجواب بالتأكيد: لا! صحيح هو مطلوب منه حكاية، لكن أيضاً مطلوب منه جانب فني تحققه اللغة التي هي أداة رئيسية ومهمة، فكما يعتبر الشعر حاملاً للغة ومطوراً لها فالرواية أيضاً حاملة للغة ومطورة لها. وهذا الكلام يُرّد عليه أحياناً بفكرة أن الرواية ليس هذا دورها، فهي ليست قصيدة، بل دورها أن تصل إلى الآخرين، ولو أن هناك خيارات، فالرواية ليست رواية واحدة، كما القصيدة ليست قصيدة واحدة، وبالوقت ذاته غير مقبول الجنوح باللغة والتحليق بالخيال. وإذا رجعنا للفلسفة، فإن الإنسان لا تنطبق عليه القاعدة المعروفة عنه بلجوئه إلى التفسير الأسطوري لمعرفة الظواهر الكونية، فكل أسطورة تفسر ما معنى المطر، ومن هو إله المطر، إله الخصب، وغيرها من الأجوبة على تساؤلات تدور في ذهنه، فكان يخلق تعبيراً يجعل دهشته أمام الشيء تفسيراً له، فالطفل مثلاً يشبه بنموه الحضارة، فكما مرت الحضارة بمرحلة الطفولة التي هي مرحلة الأسطورة، أيضاً الطفل يولد في مرحلة الدهشة التي مرت بها الإنسانية ككل، فدهشة الطفولة هذه غير موجودة في الكون، لكنها موجودة في تجدد الإنسان، والأسطورة في البداية هي الدهشة من الأشياء.
إن ما يميز رواية الخيال هو قدرتها على الخلق الإبداعي وتشييد عوالم جديدة واستنباط شخصيات مبتكرة نتيجة اشتغال تخييلي بحت، إذ يستخدم الكاتب – الراوي في هذا النوع من الأدب مجموعة من التقنيات الفنية لنسج الأحداث ورسم الشخصيات الخيالية ووصف ما تقوم به من أعمال، إضافة إلى التحكم بلغة الحوار وإدارة الأحداث، وهذه التقنيات بمجملها تشغل مساحة واسعة من الفضاء السردي، بينما لا يتدخّل مؤلف الرواية الواقعية أو الوثائقية – التاريخية في سير الأحداث، لأن كل شيء في الرواية واقعي وحقيقي وقائم على ملاحظات المؤلف وتأمّلاته. وفي السرد القصصي الخيالي يقوم المؤلف بتغيير المادة الخام وتحويلها ومزجها بالخيال لصياغة مادة جديدة تختلف عن المادة الخام إلى حد كبير، وباختلاق المواقف والشخصيات الوهمية والتلاعب بها وتحريكها حسب رؤيته. وبما أن المتخيل غالباً ما يدرك بوصفه نقيضاً للواقعي، فإنه يبدو من الأجدى محاولة مقاربة المتخيل انطلاقاً من تحديد مفهوم الواقع. وكما يبدو أن خير طريق لتحديد مفهوم الواقع هو إظهار اختلافه عن المفاهيم القريبة، وأهمها مفهوم الحقيقة، فالتناقض الظاهري بين هذين النوعين من فن الرواية يزول إذا عرفنا أن العمل الأساسي للمؤلف في كلا النوعين هو انتقاء المواد وهيكلتها وصياغتها فنياً وجمالياً. وإن كان ثمة اختلاف واضح في مدى استخدام عنصر الخيال، لكن ليست هناك حدود فاصلة بينهما، فهما من طبيعة واحدة.