الــراوي والمـؤلـف
ناظم مهنا
تتردّد في رواية «الصخب والعنف» لوليم فوكنر العبارة الشكسبيرية التالية: «الرواية يرويها أبله»! وتبقى هذه العبارة غامضة ومفتوحة على التخمين. والحقيقة أن التداخل بين الراوي والروائي يظلّ من الأمور التي تحيّر النقاد الجادين. هذا التداخل قد يوهم القارئ أن ما يقرأه هو سيرة ذاتية للمؤلف أو للروائي. وكان تاريخ الأدب السردي قد عرف عبر العصور نمطاً بديعاً يروى على لسان الحيوانات، إذ يقوم الروائي ببث وجهة نظره على ألسنة الحيوانات في حواراتها الفلسفية والتأملية وحتى العلمية، والأمثلة كثيرة على هذا النوع من الأدب، أذكر منها: «رسالة تداعي الحيوانات على الإنسان» لإخوان الصفا، و«حوار الكلبين» لسرفانتس والقائمة طويلة.
هذا النوع القصصي لا يزال يلقى استجابة كنمط من الأدب الرمزي التخيلي. إذا كان الروائي يريد أن يوحي للقارئ أن الرواية معقدة، وأن عليه أن يصحو لاكتشاف المعنى أو الجوهر أو الكنز، فإن النقد الحديث جرّد المؤلف من هذا الامتياز، فمنذ بداية القرن العشرين، تتويج عصر الواقعية في آداب الغرب، غدا المؤلف المتطفل غير مرغوب فيه، بسبب انتقاصه من وهم الواقعية، وتقليله من الكثافة الانفعالية للتجربة التي يتمّ تقديمها عن طريق تشتيت الانتباه إلى عملية السرد، وكأن الروائي هنا، يدّعي مقدرته على إمكانية الوجود في كل مكان في الوقت نفسه! وفي رأي لودج، أن عصرنا الذي ساد فيه الشك والنسبية، لا يتقبل من أي شخص مهما علا شأنه أن يخلع على نفسه هذه المعجزات. لذلك ذهبت الروايات نحو كبت صوت المؤلف أو إزالته من اللعبة أو على الأقل تواريه خلف ألف حجاب وحجاب! والبديل عن صوت المؤلف المتواري أن يتمّ تقديم الحدث من خلال وعي الشخصيات أو إسناد مهمّة السرد ذاتها إليهم. وإذا كان لابد للمؤلف المتطفل من أن يحشر نفسه أو يطلّ برأسه، فيكون غالباً بشيء من الحرج الساخر أو عبر تعليق سريع. ولكن هل يعني هذا أن المؤلف أو الروائي لا قيمة له في الروايات الجديدة؟! أعتقد أن من يزعم ذلك، يجافي الصواب، وهل ننسى، تحت تأثير الآراء النزقة للنقاد ما بعد الحداثويين، أن المؤلف قد مات وتمّ دفنه دون وداع! هذه أوهام تفتقر إلى الواقعية! فالروائي لايزال صانع اللعبة، ولكن ليس وحده هذه المرة بل بمشاركة القارئ المفترض، فالكتابة السردية تفترض قارئاً لا مندوحة عن ذلك، حتى لو ادّعى الكاتب أنه لا يكترث بالقراء بل يزدريهم، فالقارئ موجود وشريك في أي لعبة سردية. والقارئ هذا ليس مجرد متلق أو مستهلك، بل هو الموشور والمعيار الذي تكتمل فيه ومعه فنية السرد ومعناها. وهذا القارئ المنشود هو الذي يملأ الفراغات ويردم الثغرات ويتجاوز التفاصيل ويعلي من شأن العمل ويجعله مشعاً، وهذا النوع المتعدّد من القراء لا يقلّل من أهمية شريكه الخفي على الطرف الآخر، الروائي، بل يقلّل من شأن الناقد التقليدي الذي لم تعد له أهمية تُذكر في هذه المعادلة الجديدة. ومن هذا المنطلق تكون الإجادة والتشويق مطلوبين من المؤلف، عبر كل أنواع السرد وفضاءاته المتعدّدة. ويحصي الناقد والروائي ديفيد لودج أنواعاً عديدة من أشكال السرد التي عرفها تاريخ الرواية الحديث، لعله من المفيد أن نذكر منها: الرواية اللغز، رواية الرسائل، رواية تيار الوعي، الرواية التجريبية، الواقعية السحرية، الرواية الكوميدية، رواية التصوير والتقرير، الرواية الخيالية.. وكل هذه الأنواع لها أعلامها من الروائيين، ولن تكون لها قيمة تُذكر إذا انفضّ عنها القراء الجدد المتمتعون بالاستجابة الجمالية والمعرفية.