تاريخ سورية القديم آثارها وحضارتها في كتاب جديد
تمتعت سورية وماتزال بموقع جغرافي متميز، فقد كانت تقع في قلب العالم القديم،وصلة وصل بين بلاد الأناضول ووادي النيل، وبين بلاد الرافدين والبحر المتوسط ومصر، وبين بلاد الإغريق وبلاد الرافدين والهضبة الإيرانية وما بعدها. هذا ما مكنها من تأدية دور مهم على جميع الأصعدة البشرية والفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، وانعكس ذلك في جوانب تاريخها المختلفة، إذ كانت محط أطماع الإمبراطوريات والممالك المجاورة التي أرسلت جيوشها الجرارة لاحتلالها والسيطرة عليها، يضاف إلى ذلك غناها بالموارد والمنتجات الطبيعية كالأخشاب والحبوب والزيتون والعنب والتين والرمان وغيرها من المنتجات والثمار التي يرد ذكرها في نصوص كثيرة.
هذا ما ركز عليه كتاب “تاريخ سورية القديم وآثارها وحضارتها”، للدكتور عيد مرعي الصادر عن وزار الثقافة- الهيئة العامة السورية للكتاب، والذي أكد من خلاله على الأهمية التاريخية والحضارية لسورية، لافتاً إلى أنه وعلى الرغم من أن سورية لم تشهد نشوء إمبراطوريات وممالك على أرضها فإن موقعها المتوسط في قلب الشرق القديم وغناها بالموارد الطبيعية جعلها أرضاً للصراعات الحربية، ولم يفقدها ذلك هويتها الحضارية بانتماء سكانها إلى أصل واحد، وهو ما يتوضح بجلاء من خلال اللغات التي استخدمها السكان إذ أنها تظهر تطابقاً في بنيتها النحوية والقواعدية والصرفية والمفردات وغيرها، بالإضافة إلى التشابه في المعتقدات الدينية والعادات.
يتحدث د.مرعي عن الآراء المتعددة حول اسم سورية، حيث ظهر المصطلح “سورية” في الألف الأول قبل الميلاد عند ظهور الميدين الذين أقاموا مملكة لهم في شمالي إيران، ثم تطور الاسم في الشرق الأدنى القديم فاستخدم اسم “سيريا” للمنطقة الخصبة الواقعة ما بين البحر المتوسط وسلسلة جبال طوروس ونهر الفرات والبادية، أما المنطقة الواقعة ما بين الفرات الأوسط ودجلة فقد سماها الإغريق “أسوريا”، ثم ساد استخدام “سوريا” في العصر الهلنستي الذي ساد فيه استخدام اللغة الإغريقية. ويبين مرعي في كتابه أن سورية لم تستطع أن تحقق وحدتها السياسية الكاملة، لكن وعلى الرغم من نشوء العديد من الممالك فيها فإنها حققت وحدة حضارية وثقافية متكاملة امتدت خارج حدودها الطبيعية، من هذه الممالك والإمارات مملكة إبلا التي قامت في شمالي سورية في النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد، ومملكة ماري التي نشأت في منطقة الفرات الأوسط في النصف الأول من القرن الثامن عشر قبل الميلاد، ومملكة يمحاض وعاصمتها حلب وكان لها دور بارز في تاريخ شمالي سورية وبلاد الرافدين في النصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد، وهناك أيضاً مملكة قطنة التي قامت في منطقتي حمص وحماة وكانت إحدى أهم الممالك في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.
يعود الكاتب إلى عصور ما قبل الكتابة أو ما قبل التاريخ، فسورية تمتلك العديد من المواقع التي كانت مراكز إشعاع حضاري وفكري ومدني وفني، إذ قامت فيها مدن مزدهرة عرف سكانها الأوائل الزراعة، وتربية الحيوانات والاستقرار وصناعة الفخار والمعادن وسبكها، وساهموا في ابتكار أقدم نظام كتابي عرفه الإنسان لينتقل العالم بذلك من عصور ما قبل الكتابة إلى العصور التاريخية الكتابية، وأشهر هذه المواقع تل الجرف الأحمر، تل أبو هريرة، تل المريبط، تل حلف، تل الرماد، تل أسود وغيرها الكثير.
يسلط الكاتب الضوء على مناحي أخرى كانت موجودة عند هذه الممالك والإمارات مثل ازدهار البناء والعمران والفنون المختلفة من رسم وتزيين وزخرفة، والذي تشهد عليه بشكل أساسي القصور والمعابد المكتشفة مثل معابد إبلا وماري وأوجاريت وقطنة وتدمر، وازدهرت ايضاً العلوم والآداب المختلفة كالشعر والموسيقا والأساطير الكثيرة التي تعبر عن نظرة الإنسان إلى الكون وكيفية نشأته، عن كيفية تكون المعتقدات الدينية الأولى الممثلة لقوى الطبيعة الكبرى كالأرض والسماء والريح والجبال والعواصف والخصوبة وغيرها، والتي انتقلت بدورها إلى الشعوب الأخرى وأثرت في معتقداتها وفكرها وفنونها وعمرانها جميع أشكال حياتها. فكرة الكتاب ليست جديدة على الكاتب، فهو كان قد أصدر قبل نحو عشر سنوات كتاباً يحمل عنوان “تاريخ سوريا القديم 3000-300 ق.م”، لكن ظهور دراسات جديدة بلغات مختلفة، وطهور الاكتشافات هنا وهناك من الجغرافية السورية أو من خارجها، دفع د.مرعي إلى الكتابة مرة أخرى وبتوسع أكبر وشمولية أكثر آملاً أن تكون هذه الدراسة مرجعاً ومنطلقاً لكل من يريد أن يبحث في تاريخ سورية القديم في المستقبل.
عُلا أحمد