وثائق باندورا… لا دخان دون نار
محمد نادر العمري
بعد سلسلة الفضائح التي كشفت عنها وثائق حملت أسماء “بنما”، وملفات “فينسن” ، وأوراق “بارادايس”, أزيح الستار مؤخراً عن وثائق “باندورا” وهو مشروع صحفي عابر للحدود ويصنف على أنه الأوسع من نوعه في تاريخ العالم، حيث تشارك فيه أكثر من 600 صحفي وإعلامي استقصائي، ينتمون وفق ما أعلن عنه لـ 150 وسيلة إعلامية موزعة على 117 دولة، حيث قام هذا الفريق عبر مشروع وثائق “باندورا” بالكشف عن هوية مالكين سريين لـ 1500 ملكية عقارية، اشتراها أصحابها عن طريق شركات خارجية. سلسلة التحقيقات هذه استندت إلى أكثر من 11.9 مليون وثيقة مسربة حصل عليها الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين.
وتضمنت وثائق “باندورا” كشف المستور من الصفقات الدولية الكبرى المتعلقة بتبييض الأموال وتهريبها, وأبرز صفقات السلاح المشبوهة وسرقة النفط وبيعه, كل ذلك بإشراف وجهود وتعاون مع مصارف كبرى في العالم, والتي تحتكر النظام النقدي وتنفذ سياسات واشنطن بحجز الأموال على المودعين المحاصرين سواء كانوا من الشخصيات الاعتبارية أو الطبيعية.
وإلى جانب إيداعات البنوك ، سعى من وصفوا بعرابي هذه السلوكيات من ساسة ورجال أعمال كبار, لشراء العقارات حول العالم, وبلغت النسبة الأكبر منها في بريطانيا, حيث تقدر قيمة العقارات التي تم شراؤها في بريطانيا وحدها وفق الوثائق المسربة, بأكثر من 4 مليارات جنيه إسترليني، وربما السبب يعود لذلك أن أمهات البنوك ومقراتها الأساسية تعود مركزيتها لـ هناك.
ومن الصور الأخرى لصور التبييض وغسل الأموال التي أبرزتها الوثائق تمثلت في تأسيس شركات خارجية, كما هو حال الشركات التي انتشرت في مناطق مثل “جزر فيرجن” البريطانية المعروفة باختصار تجاري وهو (BVI), وكذلك الشركات الأربعين التي تأسست في جمهورية بنما بصورة غير قانونية.
حيث اعتبرت الوثائق وما تضمنتها من بعض الإشارات لتوفير ما عرف بالملاذات الآمنة لعوائد كل من تجارة السلاح وبيعه لتنظيمات متعددة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا, وأيضاً للفساد المالي في الدول والتي باتت تشكل كتلة نقدية من رؤوس الأموال تهرب من الدول النامية و بتواطؤ من المسؤولين الحكوميين في بنوك الدول الكبرى, فضلاً عن الملاذات الآمنة لتجارة المخدرات التي نشطت وفق تقديرات دولية خلال العقد الأخير 300% بسبب العديد من العوامل الاجتماعية والاقتصادية حول دول العالم, والجدير ذكره هنا إن هذه الملاذات الآمنة التي كانت توفره البنوك, كانت تتقاضى علية ما يقارب من 35 % من القيمة الكلية أي ما يقارب الثلث.
من المؤكد أن هذه التسريبات والتي طالت العديد من السياسيين والزعماء العالميين الحاليين والسابقين, لن تمر مرور الكرام رغم كل المحاولات لإخفائها وإنكارها ونفي مضمونها, بل أكثر من ذلك هناك من ذهب لاعتبار هذه الوثائق لا مصداقية لها ولا دليل وأنها مجرد محاولة لتشويه سمعة هؤلاء السياسيين – وهو بطبيعة الحال سيناريو مفترض – ولكنه يحمل الضعف في طياته, وخاصة إن معظم من ورد أسمائهم في هذه الوثائق هم من أصحاب رؤوس الأموال “مجهولة النشأة” كما يقال, ومن جانب آخر مسارعة هذه الشخصيات لنفي مضمون الوثائق يشير نوعاً ما عن ارتباك حقيقي, والأهم من ذلك إن وثائق بنما والتي صنفت بأنها إحدى كبرى عمليات تسريب الوثائق للصحافة في التاريخ, تحتوي على 11.5 مليون ملف مصنف بالسري من سجلات شركة تسمى “موساك فونسيكا” ومقرها بنما, وهذه الشركة تعتبر من أكبر وأهم الشركات التي قدمت خدماتها ومازالت تقدمهما لـ 72 من قادة دول العالم الحاليين والسابقين لإخفاء أموالهم عن أعين الضرائب والرقابة-حسب تقرير الشفافية الصادر عن الأمم المتحدة- لعام 2019. بل الأكثر أهمية من ذلك أن الوثائق التي سربت هي مرفقة بمراسلات بريدية، وحسابات بنكية، وسجلات عملاء يرجع تاريخها إلى 40 عاماً.
وفي الوقت الذي سارع الكثير من الزعماء السياسيين ومقربين منهم لنفي ذلك, دفعت الوثائق في المقابل لقيام بعض الدول لاعتقال مسؤولين سابقين لديها كما هو حال رئيس وزراء ايسلاندا, مما يضعنا أمام احتمال وحيد أو مقاربة مفادها, هناك من دون شك مصلحة خفية قد تكون على مستوى طموح دولة أكثر من شخص خلف هذه التسريبات, وإن كان الرغبة الشخصية في بيع وثائق مقابل الحصول على أموال واردة, ولكن الحقيقة تقال إن مؤشرات مصداقية هذه الوثائق أكبر من بطلانها, وكما يقال في عاميتنا ” لا يوجد دخان من دون نار”.