ثقافة الاستقالة
غالية خوجة
لن نرتقي إلاّ عندما تدرك الغالبية كيف توظف طاقاتها في المجال النافع المفيد للمصلحة الوطنية العامة، لأن الإنسان العارف بطاقاته وإمكانياته الموجبة يدرك تماماً كيف يختار المجال الذي ستزدهر فيه هذه الطاقة وتنمو وتظلل الوطن، ولأنه يعلم يقيناً أن غايته ليست المنصب ولا الكرسي ولا المصلحة الخاصة والنفعية على حساب الوطن.
وحده العارف يدرك أنه يدور في مدار ليس له مهما كان صدى المنصب بعيداً، لذلك يرى أن يقدم استقالته ليضع خبرته وإمكانياته وطاقاته في خدمة الوطن، لكن في مجال يكون فيه منتجاً ومفيداً ونافعاً للوطن لا منتفعاً من الوطن. وعلى مرّ الأزمنة، لم نسمع بأن فلاناً استقال لأنه كشاغل لهذا المنصب لن يضيف له الجديد المناسب والحيوي، ولربما هناك أمثلة نادرة على الصعيد المحلي والعربي والعالمي.
القلة النادرة تدرك أن الاستقالة ثقافة وعي، وأن ثقافة الاستقالة ضرورية لكل من يشغل منصباً يكون وبالاً وفاجعة على هذا المنصب، وعليه هو أيضاً فيما لو تأمّل قليلاً، لأن المنصب خدمة عامة تكليفية لا خدمة خاصة تشريفية. وبالتالي، نتساءل معاً: ما دور شاغلي المناصب؟ هل يجيدون ويبدعون في خدمة المصلحة الوطنية العامة؟ هل يراجعون أنفسهم وينتقدونها ذاتياً ليطوروها ويطوروا أساليب القيام بمسؤولياتهم العامة؟ هل يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبهم الله؟ هل يعون ويستوعبون مفهوم ثقافة الاستقالة ليكونوا في المنصب المناسب لطاقاتهم وعقولهم وأدائهم وعطائهم المستقبلي؟.
من زاوية أخرى لمعنى هذه الثقافة الراقية نتساءل: أين الجهات المختصة الرقابية وضميرها على المتولين للمناصب مهما دنت وعلت؟ أين إدارة الموارد البشرية لتستثمر العقول والطاقات في مجالاتها المناسبة، فتعيد تنظيم المهام تبعاً للطاقات المنتجة المناسبة في المكان المناسب، وتكافئ الإنسان المسؤول الذي أضاف وطور وأبدع للصالح العام على حساب مصلحته وحياته الخاصة؟
أين ثقافة تكريم الإنسان المضحي من أجل المصلحة الوطنية العامة؟ وأين ثقافة العقوبة القانونية الجادة مع التشهير؟ ولماذا لا يطبق القانون على جميع المواطنين سواسية؟ أم أننا لم نأخذ من القوانين سوى قاعدة: “الظلم الموزع بالسوية عدلٌ بين الرعيّة”؟ فلماذا لا نوزع “العدل” بدل “الظلم” بالسوية؟
يبدو أن الغالبية نسيت أو تناست العلاقة الثقافية التشابكية المنتجة للتكاملية المتناغمة بين الطاقات البشرية التي من الضرورة بمكان أن تتداخل وتتفاعل كما مسنّنات الساعة لتستمر عجلة الحياة بالدوران، قبل أن تصيبها “عجلة القدر” التي تدور بها “كارمينا بورانا”، أو قبل أن تصيبها عجلات قطار تولستوي في روايته “آنا كارنينا”، أو قبل أن تصيبهم عجلة الموت ويقبعوا في ظلمة الحفرة نادمين. وما يزيد الواقع ظلمة أن الإنسان لو فعّل جميع طاقاته فلن يستطيع أداء واجبه بمثالية وكما يجب، وهذا ما أثبتته البحوث العلمية، فكيف لهذا الإنسان الجالس على الكرسي أن يناط به منصب أو اثنان أو ثلاثة؟ خصوصاً، الذين يجلسون على الكراسي، في المكاتب المغلقة، دون التحرك الاطلاعي حتى في مقر أعمالهم، فكيف لنا أن نلفتهم إلى التجوال الميداني في الشوارع وبين العامة؟ وكيف سيجيد أمثالهم عمله دون ظلم وفساد، كحد أدنى، وكيف سيجيدون، منهجية عملية الأداء والإنتاجية والتطوير والإبداعية؟
المسؤول اسم مشتق من المسؤولية، والأسئلة المتعلقة بكيفية أدائه لمهامه ومسؤولياته، وهو مسؤول أمام الله ونفسه والناس، لذلك، هي مهمة صعبة جداً بكل تأكيد، وسيتخلّى عنها الغالبية فيما لو فكّروا كيف بكى عمر بن الخطاب خشية من الله، وخوفاً من تقصيره بحق دابّة، مردداً: “ويحَ عمر”!