السهاد بين الرهاب والإبداع
يُحكى أن المراهقين راندي غاردنير وبروس ماكاليستر قررا في أواخر عام 1963 تحطيم الرقم القياسي للبقاء دون نوم لأطول مدة ممكنة، ونجحا في مسعاهما، إذ تمكن راندي من أن يظل مستيقظاً لمدة 11 يوماً و25 دقيقة. لكن اللافت في الأمر أن راندي لم تظهر عليه علائم التأثر بحرمان النوم، ومع مرور الوقت ظهرت نتائج صادمة، إذ أصبح راندي أبرع في لعب كرة السلة، حتى ولو أرجع ذلك إلى الساعات التي كان يقضيها في ممارسة هذه اللعبة ليمنع نفسه من النوم، وقبل أن يحظى بنوم هانئ، أُخذ إلى المشفى لدراسة آثار التجربة على دماغه أثناء نومه، فخلصت الدراسة إلى أن جزءاً من دماغه كان نائماً فيما بقي الآخر مستيقظاً، بيد أنه عانى لاحقاً من سهاد أو أرق لا يحتمل.
وتناولت دراسات أخرى ما يمكن عده نوعاً من الأرق، متمثلاً بـ “رهاب النوم”، وفيه يخاف المريض من الخلود إلى النوم، ويعد فراشه منبعاً للخوف بدل أن يكون مكاناً للاسترخاء والراحة، ويكون المريض قلقاً من أمور غير عقلانية، فلا يخلد إلى النوم مثلاً خوفاً من اقتحام منزله، مع أنه يعيش في مجتمع آمن. ولهذا المرض تبعات سيئة على جميع المستويات الحياتية، وقد تصل بالمريض إلى الانتحار. لكن لحسن الحظ توصل الباحثون لعلاجات فعالة لهذه المشكلة.
وللسهاد أو الأرق في حياة الأدباء أثر مختلف ومتلوّن، فمنهم من تغنى به، ومنهم من عانى من تبعاته، حتى باتت طبيعة أدبهم ممتزجة مع أوهام الأرق وانعكاساته على المزاج، ومنهم من تناول السهاد كفكرة بنى عليها نوعاً أدبياً، كفرانز كافكا الذي تميزت أعماله بسريالية مشبعة بأجواء العزلة والأرق، إذ أورد الطبيب أنطونيو بيرسياسنتي في دراسة أجراها مع زوجته أليسيا كورالي، أن كافكا عانى من السهاد، وكتب معظم أعماله ليلاً، وكان مهووساً بالنوم واليقظة.
وبيّنت مذكرات كافكا الشخصية، محاولته تحليل أسباب أرقه، إذ ذكر فيها: “يخفي أرقي خلفه خوفاً عظيماً من الموت. ربما كنت أخشى ألا تتمكن روحي، التي تفارقني خلال النوم، من العودة ثانية”. وهذا يرجح إصابة كافكا بأرق سلوكي مزمن، بحسب بيرسياسنتي.
ويبدو أن السهاد كان يدفع كافكا للكتابة، إذ كان يلوذ بالأدب لإبعاد أشباحه، أو لنقل للاستلهام منها في أدبه، فقد أقرَّ بأن الكتابة في حالة السهاد، تسمح بالوصول إلى أفكار ما كان ليستلهمها في حالات أخرى، وعبّر عن ذلك بالقول: “أعجب لسهولة قول كل شي، وكأنها نار عظيمة أُوقِدت للمكامن التي تخرج منها أغرب الأفكار قبل أن تعود لتختبئ فيها ثانية”. وأكد: “كل ما أملكه هو قوى معينة، تستحيل أدباً، وتكمن في عمق لا يمكن بلوغه في الظروف العادية”.
وكان النوم والسهاد موضوعين رئيسيين في رواية “التحول”، إذ عد كافكا النوم في الرواية السببَ والحل لتحول غريغور وعزلته؛ فعدم انتظام نوم البطل علامة على بدء ابتعاده عن بشريته حتى استحال حشرة بعد ليلة من النوم المتقطع. والسهاد جعل التجرد من البشرية دائماً دون رجعة، وفقاً لبيرسياسنتي، الذي أشار إلى أن “التحول” يرمز إلى العزلة الاجتماعية؛ لكننا نملك فرضية بديلة، إذ ربما تحمل الرواية كذلك إشارة إلى آثار النوم قليل الجودة، وفترات النوم القصيرة، والأرق، على الصحة النفسية والجسدية.
ويجدر ذكر أن مارسيل بروست، وفلاديمير نابوكوف، وإميلي برونتي، ووالت ويتمان، وغيرهم كانوا أمثلة أخرى عن الفن النابع من الحرمان من النوم.
أما الروائي الأمريكي، ريموند كارفر، فتناول فكرة السهاد كأداة أدبية بنى باستخدامها حبكته، واستخدمها لأول مرة في قصة “زوجة التلميذ”، ثم في قصص لاحقة أيضاً.
ويشير أستاذ الأدب الإنكليزي إرنست فونتانا في كتابه “السهاد في أدب ريموند كارفر” إلى أن السهاد “يؤمن القالب الذي يصوغ أسلوب كارفر الأدبي، لا سيما استخدامه المتزايد للمونولوج الداخلي والمونولوج الدرامي بصيغة الحاضر، بدل استخدام السرد المنطقي بصيغة الغائب”.
تبدأ القصة بشخصية مايك يلقي بعضاً من الشعر على مسامع زوجته نان، التي غطّت في النوم لتستيقظ مذعورة من حلم راودها، وتقص أحداثه لزوجها، فيذكرها الحلم بحدث في بداية زواجهما عندما كانا يتلذذان بالمتع البسيطة المتمثلة في التخييم والجلوس بمفردهما، بيد أن مايك لا يسايرها بتذكر تلك التجارب، ويؤثر النوم. وبعد أن غط زوجها في نوم عميق اعترى نان قلق أصابها بالأرق، حتى إن صوت زفرات زوجها النائم باتت تخيفها، وزاد الأرق من حدة حواسها، فبدأت تدرك كل صوت في المبنى السكني، بدءاً من عودة جيرانها إلى المنزل إلى تدفق المياه في المرحاض المجاور. فتحاول عبثاً ممارسة تمارين الاسترخاء، وتتضرع إلى الله لكي تغفو عيناها، لكن النوم لم ير طريقاً إلى جفنيها، بل اشتد قلقها حين أنصتت إلى دقات قلبها، وتشرع في البكاء، وفي قلبها حسرة على ما آل بها وبحال زوجها الذي تركها فريسة لأشباحها.
أفضى هذا السهاد والعزلة إلى “صحوة” نان، وربما هي صحوة عن زواجها بحسب ما يوحيه الفراغ القائم بين سهادها وزوجها النائم، إذ يقول إرنست فونتانا في هذا: “بالرغم من أن المصدر الدقيق لهلع نان لم يُحدّد بصورة صريحة، تنتهي القصة بصورة مايك وهو يحاول الاختباء منها، ويحرمها من حقها بالشعور بالمودة والحميمية”. وتوحي ابتهالات نان المحمومة إلى الصعوبات التي واجهتها في زواجها، وإلى إقرارٍ بأن الذكريات السعيدة التي تخطر ببالها قد لا ترجع قطّ. كما تؤكد ابتهالاتها أيضاً خوفها من العزلة، ومن “إدراكها المفاجئ أنّ على المرء أن يواجه الفراغ بمفرده، حتى بوجود شخص آخر بقربه”.
علاء العطار