التدويل.. من محكمة الحريري و”تلفن عياش” إلى مرفأ بيروت ومجزرة الطيونة كـ “بروفة” أولية
أحمد حسن
بعد كمين “الطيونة” ومجزرته التي وقعت على خلفية تهيئة الأسباب لتدويل ملف تفجير مرفأ بيروت الكارثي، لم تحتج واشنطن إلا إلى زيارة واحدة من “فكتوريا نولاند” ليتغير موقف بعض الأجهزة العسكرية والأمنية – ذات التمويل والتسليح الأمريكي – في وصفها للحادث من “رشقات نارية استهدفت محتجين” إلى “إشكال” تحول إلى اشتباك، والأمر في الحالتين مختلف جداً، سواء بالتوصيف أم بالنتائج، ففي الأولى هناك مسلحون وهناك محتجون سلميون وبالتالي هناك جريمة متعمدة وعقاب واجب لقاتل وجهة سياسية معروفة الإسم والعنوان، وفي الثانية هناك مسلحون من الطرفين وبالتالي ضحايا عرضيون والمسؤولية مشتركة على الجميع، والحلّ: “تبويس لحى” لا أكثر من ذلك.
أهداف الكمين/ المجزرة
والأمر فإن لـ “الكمين” الإجرامي ولصاحبه المعروف ثلاثة أهداف مترابطة: الأول شخصي وهو استجرار الجميع إلى حرب أهلية جديدة لا يستطيع هذا القاتل العيش دونها، فهو، حقيقة، لا يعرف مكاناً ومكانة “سياسية” مريحة سواها، فهو نتاجها الطبيعي أولاً وابنها البار ثانياً، أما الهدف الثاني فهو عام وقديم ويتمثّل بمحاولة دائبة لإدخال سلاح المقاومة في زواريب الداخل وتلويثه بالدماء اللبنانية لسحب الشرعية الداخلية عنه، والأهم لحرف أنظار واهتمامات المقاومة عن العدو الحقيقي “إسرائيل” في عصر “اتفاقات ابراهام” المزعومة.
الهدف الثالث كان، وما زال، التدويل، وهذا ما تكفلت به أصوات عدة آخرها نداء عاجل لنادي “رؤساء الحكومات السابقين” بارتباطاته وتوجهاته المعروفة جداً، لـ “الاستعانة بلجنة تحقيق دولية أو عربية، من أجل المسارعة إلى كشف الحقائق الكاملة عن جريمة المرفأ الرهيبة بجميع ملابساتها، وليس الاكتفاء والالتهاء بمسائل التقصير الإداري”، وهنا بيت القصيد الفعلي، فالنادي هو ممثّل فعلي لجماعة “فيلتمان” الشهيرة، بدليل غياب أو بالأصح، تغييب، ضمير لبنان عنه، سليم الحص، وبغياب الضمير يصبح صوت النادي تالياً مجرد صدى فعلي لأصوات جوقة آذار عام 2005.
أصل المشكلة
لنفهم ذلك كله، تفجير المرفأ، وكمين الطيونة، ومطالبات التدويل، يجب إعادة ربطهما بالمنبع، وكي لا نعود إلى زمن “التأسيس” وأهدافه وغاياته، يمكن لنا الاكتفاء بزمن القرار 1559 والقاضي بوضع يد دوليّة جديدة – أي غير السابقة التي نشأت نتيجة “الطائف” – على لبنان، من انتخابات رئاسة الجمهورية وحتى نزع سلاح المقاومة ضد إسرائيل، لأجل ذلك كانت جريمة الحريري ومحكمته الدولية، ولأجل ذلك أيضاً كانت حرب تموز 2006. الفشل فيهما دفع بهذا الفريق إلى التعويل على “تفجير المرفأ”.
أسئلة المرفأ!!
هنا يصبح من النافل محاولة فهم توجّه قضاة التحقيق في هذه الجريمة، سواء السابق أم الحالي، وتحديداً الحالي، حيث التسييس والانتقائية الفاضحة في الاتهامات، وإلا فمن يفسر لنا قانونياً معنى الادعاء على رئيس للحكومة دون أي وزير من حكومته، أو الادعاء على وزراء سابقين دون رؤساء الحكومات التي كانوا جزءاً منها؟!، أو ما معنى الادعاء على مسؤولين في الأمن والجيش دون سواهم ممن كانوا في سدة المسؤولية الفعلية خلال تلك المرحلة وكان لديهم، على الأقل، علم كاف بالمواد وخطورتها المدمرة.
وهذا سؤال يتناسل منه أسئلة عدة هي من صلب عمل المحقق الحقيقي، تبدأ من اسم المسؤول، شخصاً كان أم مؤسسة، عن الاحتفاظ بمواد شديدة الخطورة مثل هذه في مرفأ مدني ولهذه الفترة الطويلة؟ وتتواصل مع سؤال لماذا بقيت هذه المواد في لبنان ما دامت عابرة كما قيل سابقاً؟ ولماذا لم ترحَّل الحمولة بعد معالجة أمر الباخرة التي غرقت لاحقاً؟ ومن المستفيد من بقائها؟ من يدفع بدل إيجار تخزينها؟ خاصة وأن هذا البدل يدفع بالدولار الأمريكي كما يعلم الجميع، وهو قرين المستحيلات الثلاث في الوضع اللبناني الراهن، وبالتالي وهذا السؤال الأهم: هل هي عابرة حقاً، أم جاءت لهدف ما مرتبط بأهداف محدّدة سواء في الداخل اللبناني أو نظيره السوري؟! خاصة وأن للمرافئ اللبنانية، خلال الأزمة السورية، سوابق خطيرة في هذا المجال، ومن يقف خلف ذلك كله؟!
والأهم من ذلك، لم لم تقدّم الدول “الصديقة” الباحثة عن الحقيقة، والتدويل، صوراً من أقمارها الاصطناعية للتفجير. وللتذكير الامتناع ذاته حدث في قضية الحريري عام 2005.
والحق أن ذلك كله يوضح بما لا يقبل الشك أن المهم في الأمر هو استغلاله السياسي. طريقة عمل القاضي واقتصاره على أسماء بميول سياسية محددة يؤكد ذلك، بيد أن الخطورة هنا تتمثل بحقيقة أن ضحايا التفجير هم بأغلبيتهم من طائفة محددة، من يتهمهم القاضي ويوجه الأنظار نحوهم هم بأغلبيتهم من طائفة أخرى، أصحاب كمين الطيونة قالوا بأفعالهم وأصواتهم إنه انتقام طائفي، وتلك هي وصفة الحرب الأهلية الناجحة.
درس محكمة الحريري
قبل ذلك كانت محكمة الحريري الدولية قد خرجت بعد خمسة عشر عاماً بدليل واحد “تلفن عياش” لتتهم من تريد، بعد أن بدأ المحقق الدولي “ديتلف ميليس” مساراً تحقيقياً غريباً بدأ بإسقاط القيادات الأمنية كافة واتهامها ظلماً – وهو ما ثبت لاحقاً – بالجريمة، واختتمه المحقق “بلمار” بدليل الاتصالات الضعيف الذي استندت إليه المحكمة لتخرج بعد كل هذه السنوات، وبعد مليار دولار لتقول لنا أنها لا تعرف مَن هو الانتحاري، ولا مَن جنّده، ولا من ضلّل التحقيق، ولا مَن اشترى الشاحنة ومن استخدمها للتفجير، ولا من فخّخها ولا أين، ولا أي شيء حول قصة احمد أبو عدس، وحتى في قرار إدانة المتهم “سليم عياش” المبني على دليل الاتصالات لا يوجد تسجيل لهذه المكالمات ولا مضمون رسائل نصية، ولم تتطرق إلى مجموعة السعودي “فيصل أكبر” الذي اعترف بالجريمة وسرد وقائع عنها لم يكن المحققون الدوليون قد توصلوا إليها بعد. المهم لديها أن “حزب الله”، ولو لم تسمه مباشرة، هو من قام بهذا الأمر.. ولتكن حرباً أهلية إذاً.
خلاصة القول
من محكمة الحريري، وحتى قبلها بكثير، والنموذج اللبناني لا يعيش إلا بالتدويل وعليه. طبقة سياسية واقتصادية كاملة لا تعرّف نفسها إلا بدلالة ارتباطها بالخارج، جلّ همها الاستقواء به على “الأشقاء” في الداخل حتى في خلاف بلدي، وتلك وصفة ممتازة لدول تابعة مجردة من السيادة إلا التلفزيونية منها.. هذا ما حاول “ديميستورا” تطبيقه في سورية!
قبل “مجزرة الطيونة” حذر السيد نصرالله من مسار التحقيق الذي يخدم مهمة شيطنة الحزب في ملف المرفأ مؤكداً أن “ما يحصل خطأ كبير جداً جداً جداً”، و”سيؤدي إلى كارثة وطنية”.
الكارثة حدثت، وما لم يتم تداركها، فستبدو، أمام الكوارث القادمة مجرد لعب أطفال.