الخــروج والوصـــول
ناظم مهنا
يتصرفُ الإنسان في سلوكه اليومي، دون أن يدري أحياناً، أو عفو الخاطر أو لاشعورياً، ككائن حامل للأنماط الأولية أو للاشعور الجمعي. ولا يستطيع السرد الحديث وهو يرصد بدقة حياة الشخصيات إلا أن يسلّط الضوء على هذه (الميثالوجيات) الصغيرة في حياة الإنسان المعاصر.
والأدب الحديث حافل بمثل هذه التكثيفات الرمزية التي يمكن إعادتها إلى الجذور الأولى للثقافة أو إلى الأساطير الأولية، ولا يكاد يخلو عمل أدبي مهمّ من هذا البعد الذي يمنح الأدب بعداً عميقاً، وهو يتفاوت بين كاتب وآخر. دعاة اللامعنى والحداثة الراديكالية يحاولون أن يفصلوا الإنسان العادي عن هذا البعد الأصيل والمتجذّر في كل شخص يحمل ذاكرة. الروايات التي واجهت إنسان النسق مثل روايات العبث والغثيان، كما عند سارتر وكامو ومن تأثر بهما، على أهميتها، لم يكتب لها الديمومة، بل كان تأثيرها ظرفياً، رغم أنها لا تنجو من تأثيرات الأنماط الأولية والأسطرة كما عند كامو، مثلاً. ولعلّ واحدة من (الميثات) الأسطورية الفرعية التي تتكرّر في الأعمال الأدبية القديمة والحديثة (ميثا) الخروج من المنزل، التي تفترض مساراً ينتهي بالوصول أو بالعودة إلى المنزل. هذا واضح في ملحمة جلجامش، إذ يخرج من قصره إلى البرية ليعثر على انكيدو، ثم يخرج خروجاً أكبر في البحث عن سر الخلود، والأسطورة عبارة عن سلسلة من متتاليات الخروج ثم العودة، وهذا يتكرر في كل أدب الرحلات والمغامرات وروايات الفروسية. وفي أدبنا الكلاسيكي القديم لاحظ الدكتور وهب رومية بحساسية فذة هذا الطقس الشعري والدلالي وقدّم أطروحته في كتاب “الرحلة في القصيدة الجاهلية” وهو للأسف لم ينل ما يستحقه من قراءة!.
والخروج تتعدّد أشكاله وأهدافه، في القصص الدينية، حيث الخروج يشكل بنية أساسية في الحكاية، ويكون فردياً أو جماعياً أو عائلياً، وكذلك الأمر في الأدب المعاصر، ففي رواية “عناقيد الغضب” للأمريكي “شتاينبك” خروج جماعي وترحل بسبب الجفاف والقحط ورحلة شاقة للبحث عن الكلأ والمراعي الخصبة تشبه قصة خروج النبي موسى من مصر والتيه في الصحراء. ومن الروايات المعاصرة النموذجية للخروج الفردي رائعة سيلين “رحلة في أقاصي الليل” وهذا على سبيل المثال لا الحصر. كذلك خروج شتاينبيك نفسه في رحلة تجوال مع كلبه تشارلي في ربوع ولاية كاليفورنيا، وهي تماثل رحلة إبراهيم بن أدهم في السياحة المعرفية. وتشكل قصيدة وولت وايتمان “أغنية نفسي” حالة خروج وتجوال طويل. إنسان التجوال أو جوَّاب الآفاق يكون بمثابة صياد معرفة في مدن العالم الحديث! يشكل الخروج، حالة حركة وسفر، وتجربة وتراكم معرفة، ضد الخمول والسكونية والاستنقاع، إنه بالمعنى النفسي حالة نضج، ما بعد الطفولة، إنه اختبار للرجولة يقوم به الإنسان من لحظة شعوره بذاته المنفصلة عن الآخرين والمتصلة أيضاً.
في الأدب، إنسان التجوال نقيض إنسان العزلة، الذي يقيم في قلعة أو في جحر أو في غرفة في فندق ويراقب العالم من ثقب، كما في رواية “الجحيم” لهنري برابوس! والخروج من البيت أو من القرية إلى المدينة أو إلى العالم، طالت الرحلة أم قصرت لابد أن تنتهي بالعودة، وأشكال العودة متنوعة؛ قد تكون عودة سعيدة إلى مسقط الرأس كما السندباد، أو عودة الخائب الذي لم يحصد سوى الشقاء، أو الموت في طريق الإياب! وبكل الأحوال هي الرحلة المعاكسة: عودة المرء من حيث أتى. وبهذا الصدد يقول عالم النفس اليونغي “بيير داكو”: “إن جميع الراشدين يمتلكون في أعماقهم رغبة حنينية في العودة إلى رحم الأم”. وهذه طريقة نظر في قراءة الأدب والروايات بشكل خاص.