الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

الأخلاق والقانون         

عبد الكريم النّاعم

جلس صديقي وقال لي بطريقة فيها إيحاء بالاهتمام وقال: “البارحة استلقيتُ لأنام، وبدأت الأفكار تراودني، ومن جملة ذلك العلاقة بين الأخلاق والقانون، ولا أكتمك أنّني لاحظتُ أنّ هذا النشاط الفكري يُداهمني غالباً حين أهيّئُ نفسي للنّوم”.

قلت: “أصدّقك، وأنا أمرّ بمثل هذه الحالات، وأعرف من الكتاب والشعراء مَن كان يضع قرب رأسه ورقة وقلماً لِيسجّل بعض ما قد يصل إليه من صور وأفكار، وأحدهم كان يضع عند رأسه آلة تسجيل صغيرة ليسجّل ما يَرِد عليه، ربّما يحدث هذا لأنّ الدّماغ قبل النّوم يكون في حالة نشطة، المهمّ، نعود للموضوع الذي طرحتَه، لا توجد مجموعة بشريّة، مهما صغُرت، دون عادات وتقاليد لها، والعادات والتقاليد تتقاطع مع القانون الذي عنيت، والقانون والأخلاق كلّ منهما يشكّل مظهَراً للآخر، غير أنّ بعض العادات والتقاليد قد تتغيّر بمرور الزمن، وبحدوث تحوّلات في المجتمع، ولن أستشهد بأوروبا وما طرأ على عاداتها وتقاليدها بين عصري الفروسيّة وعصر انتشار الآلة، بل سأشير سريعاً إلى ما كانت عليه المجتمعات العربيّة أيام الاحتلال التركي، وما تلى ذلك، غير أنّ ما ذكرتُه لا يبدّل جذريّاً في قيمة الأخلاق الجوهريّة، كالصدق، والأمانة، والتضحية في سبيل الوطن، والكرَم، والشجاعة، أو لنقل فيما اتُّفِق عليه في الوصايا العشر، لا تقتلْ، لا تزْن، لا تسرق..الخ لأنّها تمسّ صميم وجود الإنسان إنْ على المستوى الفردي، أو على مستوى المجتمع ككل، يحدث أن يتراجع حضور الأخلاق في الأزمات الكبرى التي تضرب المجتمعات، كالذي مرّ بنا في عشريّة الخراب والنّار، فتكثر السرقات، وينتشر الكذب، والنّصْب، والاحتيال، والرشاوى، ولذا نسمع بقصص ما كنّا نسمعها في تسعينات القرن الماضي على سبيل المثال.

الأخلاق حاجة حياتيّة، ومجتمع يفقد الأخلاق يعني أنّه على أبواب كارثة لا يعرف مدى هوّتها إلاّ الله، ولقد قدّمتْها الديانات السماويّة  كواجب إلهي، وأكّدها المُصْلِحون كضرورة اجتماعيّة، وحين استقرّت باستقرار المجتمع تحوّلت إلى قوانين، مدعومة بنصوص تحميها من أيّ خلل، وأصبحت في بعض الدول (عادة أخلاقيّة)، وإلاّ فما معنى ألاّ يسمح المواطن في بعض البلدان لنفسه أن يرمي محرمة ورقيّة في الشارع حفاظاً على النّظافة، ولو فعل لوجد مَن يرشده، بل ويردعه، وهكذا تحوّل ما هو أخلاقي، في هذا العُرف، أو ذاك، إلى قانون، كما أنّ القانون حين يُطَبَّق بنزاهة تصبح روحه (أخلاقاً) فلا تجد مَن يخرقه، إذْ لا قانون حين تُفقَد القيمة الأخلاقيّة، ولا أخلاق بلا قانون ينظمها، ويحرسها ويدفع عنها.

قاطعني قائلاً: “على ضوء ما ذكرت، أين نحن الآن وكيف المَخرَج”، قلت: “أنا لا أزعم أنّني أملك جواباً شافياً، ولكنّني أسعى لما فيه أسس توصِل إلى الهدف، نحن أحوج ما نكون إلى غرس أشجار الأخلاق في كلّ بقعة، لأنّ القانون قد يحتال عليه مُحتال، وما أكثر المحتالين، وهنا نحن أمام مظهريْن أخلاقيين، الأوّل يرتكز صاحبه على إيمان ديني عميق يعصمه من الانزلاق، فهو مؤمن أنّ الله سوف يُحاسبه على كلّ صغيرة وكبيرة، ولذا لا يقترب من سياج النار، والثاني يضعف لديه هذا الوازع فيحتال من أجل تحصيل مكاسب غير مشروعة.

ومثل هذا لابدّ من ابتكار أساليب وقوانين رادعة تمنعه، ويكون عبرة للآخرين، إذْ في الأزمنة التي نمرّ بها لا بدّ من ابتكار وسائل مناسبة لردع المنحرفين، مثلما نبتكر وسائل تؤهّلنا للمواجهة، ولستُ أهوّن الأمر، فقد يكون خوض معركة عسكريّة أسهل بكثير من خوض معركة مع الفاسد، والسارق، والمرتشي، والمحتال…

aaalnaem@gmail.com