ثقافةصحيفة البعث

اللغة العربية بيانٌ فريد سَحر الألباب وخَلَبَ لآلئ المنطق

قال أحد المستشرقين: “ليس على وجه الأرض لغة لها من الروعة والعظمة ما للغة العربية، ولكن ليس على وجه الأرض أمة، تسعى بوعي أو بلا وعي، لتدمير لغتها كالأمة العربية!”.

وقال الدكتور عثمان أمين في كتابه (فلسفة اللغة العربية): “من لم ينشأ على أن يحب لغة قومه، استخفّ بتراث أمته، واستهان بخصائص قوميته. ومن لم يبذل الجهد في بلوغ درجة الإتقان في أمر من الأمور الجوهرية، اتسمت حياته بتبلّد الشعور وانحلال الشخصية، والقعود عن العمل، وأصبح ديدنه التهاون والسطحية في سائر الأمور”.

وهناك كثيرون ممن أكدوا أن اللغة هوية الأمة، وأن الأمم الحيّة تحافظ على لغاتها حفاظها على أوطانها، فمكانة الأمة من مكانة لغتها. وكتب كثيرون عن خصائص اللغة العربية الفريدة، وعبقرية مفرداتها، وقد تناول الدكتور عيسى العاكوب إحدى تلك الخصائص التي تتفرد بها لغتنا، وهو البيان، في محاضرة بعنوان “العرب والبيان.. تأملات في الطبيعة البيانية للشخصية العربية”، ألقاها في مجمع اللغة العربية بدمشق.

ولفت د. العاكوب خلال المحاضرة إلى تجلي “الملكة البيانية” في جنس العرب، إذ إن “الذي وضع اسم (العرب) عَلماً على هذا الجنس من البشر كأنه أراد بذلك ظهور الإبانة والإعراب والإفصاح فيهم على أشدها”، مستشهداً بأقوال كوكبة من العلماء والدارسين، بينهم قول أحمد بن فارس: “فأما الأمة التي تُسمّى (العرب)، فليس ببعيد أن تكون سُمّيت (عرباً)… لأن لسانها أعرب الألسنة، وبيانها أجود البيان”.

وانتقل د. العاكوب إلى “انتباه العرب المفرط إلى جمال الأداء اللغوي”، فسلّط الضوء على إيلاء العرب انتباهاً خاصاً لجمال ما تقدمه الملكة البيانية اللسانية، إذ “خَلَبَ ألبابهم جمال بنات الألسن، وسحر لآلئ المنطق.. حتى إن المرء يخال أن القوم جبلوا على الافتتان بخَلَّة البيان الكريمة، فالجاحظ مثلاً يحدثنا عن عمر بن عبد العزيز الذي كان مأخوذاً ببيان بني أسد، ويروي لنا قوله: (ما كلمني رجل من بني أسد إلا تمنيت أن يُمدَّ له في حجته، حتى يكثر كلامه فأسمعه)”.

وقال إن العرب آثروا صفات السَّباطة والرشاقة، وهي هنا حسن القد واستواؤه ولطفه، صفاتٍ لكلامهم وبيانهم، فاختاروا القليل الدالّ على الكثير، والخفيف على اللسان، ونقل لنا عن الجاحظ: “وأجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فتعلم بذلك أنه قد أُفرغ إفراغاً واحداً، وسُبك سبكاً واحداً، فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان”.

وفي شأن اجتهاد العرب بتحسين مادة البيان في اللغة، أشار د. العاكوب إلى أن الشخصية العربية في “غاية الحساسية لمظاهر الجمال البادية في الأنفس والآفاق”، فقد توفر لأهل اللغة العربية قدر ظاهر جداً من “الحساسية الإدراكية إزاء أشياء الوجود”، واستدل على ذلك من قول ابن جني: “وحدثني أبو الحسن عليّ بن عمرو عقيب منصرفه من مصر هارباً متعسفاً، قال: أذمّ لنا غلام من بادية الشام [أي أخذ لنا الذمة والأمان]، وكان نجيباً متيقظاً.. فبعدنا عن الماء في بعض الوقت، فأضرّ ذلك بنا [أي عطشنا]، فقال الغلام: إني أشمّ رائحة الماء.. فسرنا معه قدراً من الأرض صالحاً، فأشرف بنا على بئر، فاستقينا وأروينا”.

ويعرف عن ابن جني انشغاله بسحر البيان العربي وخلابته وقتاً طويلاً حتى وصل في بعض الوقت إلى “اعتداد اللغة العربية إلهاماً من الحقّ تعالى، وفي وقت آخر إلى حسبانها اصطلاحاً وتواضعاً”، كما أنه –وفقاً للدكتور العاكوب– قدّم أدلة على أن الجِبِلّةَ العربية كأنها خُلقت هكذا منتجة لغة، كل مكون من مكوناتها معبّر عن انتظام في بناء متناغم متآزر رامٍ بكليته إلى قَصد الإبانة بحسنٍ.

وإن صح أن الحسّ الطبيعي عند العرب هو المنشئ للبيان العربي، دلّ كمال هذا البيان وجمال هذا الأداء على حسّ طبيعي خاص، حسٍّ مبدع في غاية اللطف والخُبْرِ والتمييز، كان من أثره لغةٌ مبينة نفت عنها كل ما يَثقُل على اللسان، ويعوق البيان.

وأنبأنا د. العاكوب أن ألفاظ اللغات جميعاً تخضع لضرورتين متباينتين في طبيعتهما هما: ضرورة الإبانة عن المسمّى وتعيينه، واقتصاد الجهد المبذول في النطق، وفي هذا قدّم ابن جني شاهدين: الأول أنه روي عن أبي حاتم السجستاني في كتابه “القراءات”: قرأ عليّ أعرابي بالحرم “طيبى لهم وحسن مآب”، فقلت: “طوبي”، فقال: “طيبى”.. فلما طال عليّ قلت: “طو” “طو”. قال: “طي” “طي”. وهنا عجب ابن جني كيف نبا بالأعرابي طبعه عن ثِقَلِ الواو إلى الياء، ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة.

والثاني قول ابن جني: سألت يوماً أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال: أقول: ضربت أخاك. فأدرته [بمعنى حاولت إلزامه] على الرفع فأبى، وقال: لا أقول: أخوك أبداً. قلت: فكيف تقول ضربني أخوك؟ فرفع. فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبداً؟ فقال: أيش هذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا إلا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام وإعطائهم إياه في كل موضع حقه، وحصته من الإعراب، عن ميزة، وعلى بصيرة، وأنه ليس استرسالاً ولا ترجيماً.

وأكد د. العاكوب أن القرآن الكريم يعزّز الطبيعة البيانية للشخصية العربية، فاقتبس من كلام الجاحظ أن “الله سبحانه يُجمل كلام من يدعو إلى العلم بإخلاص وصدق.. وفي المستطاع فهم هذا بأن الكتاب الإلهي تحدث إلى جمهور ذي صنفين للتبيان الإلهي.. فأظهرها عند عامة الناس بيانٌ لحقائق الأمور.. وأنه عند المتقين خاصةً هادٍ وواعظ”.

خلصت المحاضرة إلى أن لفظ “العرب” كان في الأصل وصفاً بالإبانة والإفصاح لهذا الجنس من البشر، ثم صار اسماً غلب عليهم، وإلى أن هؤلاء القوم انجذبوا إلى الصفة البيانية وآثروها باهتمام خاص، واجتهدوا كثيراً في تحسين بيانهم وتهذيبه وصقله فكان لهم ما أرادوا.

ويجدر بعد هذا كله الالتفات إلى لغتنا التي أهملها معظمنا، وخاصة الكثير من مثقفينا، فلا سبيل إلى السمو والارتقاء إلا بها، إذ قال طه حسين: “إن المثقفين العرب الذين لم يتقنوا معرفة لغتهم، ليسوا ناقصي الثقافة فحسب، بل في رجولتهم نقص كبير ومُهين أيضاً”.

علاء العطار