البصمة الروحية
غالية خوجة
أن تبدع، ببساطة، يعني أن تتفرد بما تنتج، وتكون لك بصمة روحية خاصة في إنتاجك المعنوي والمادي. وكم من مبدع من الصناعيين المهرة الذين أنتجوا أدوات زجاجية ونحاسية وقماشية، وكم من عقول ابتكارية مخترعة أنجبت نظريات علمية وهندسية وخوارزمية وإلكترونية وفضائية وقانونية، وكم من عقول مبدعة اكتشفت قوانين كونية وعلمية وتشريعية عادلة على عكس عقول أخرى استهلكت قوانين الظلمات، وكم من أرواح رهيفة ابتكرت ضمن الجانب الإنساني المعنوي فأنتجت الفنون والأبجديات والآداب والموسيقا واللغات البصرية والسمعية والروحية.
وهذا لن يحدث إلاّ في فضاء من الحرية المسؤولة، لأن المبدع حر ومسؤول، ومدرك أن التحرر ليس التحلل، والفرْق لا يكمن في حرف الراء واللام، بل بمدى مسؤولية الحرية وتحولاتها الإيجابية والمستقبلية.
وإذا اتفقنا على ذلك، فإننا جميعنا نوقن بأنه لا إبداع بلا حرية ولا حرية بلا مسؤولية ولا مسؤولية بلا أفعال إيجابية وتأثيرات واقعية مستدامة، أوليس هذا ما هدانا إليه محمد (ص) الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل”؟
وفي مرحلة “الأمل بالعمل”، وإعادة بناء الإنسان والوطن، لا بد أن نؤدي واجباتنا بإبداعية، لن تنتج إلاّ من خلال منهجية شاملة وشمولية، تضم أدقّ التفاصيل، وتتسع إلى الوحدة الكبرى الأساسية في الحياة لتكون أسلوباً يومياً قابلاً للتطوير والإبداع، وهذا ما لخصه جان ليسكور بقوله: “أن تبدع يعني أن تحيا بالأسلوب الذي تُبدع به”.
هذا يعني أن لكل إنسان بصمة روحية مميزة، يستمر أثرها على عمله على مرّ الزمان ومتغيرات المكان، وإلاّ لما ظلت جاذبية نيوتن في مجالها النشط المستمر، ولما بقيت نسبية آينشتاين محوراً أساسياً رغم التطور الهائل في المعلوماتية والعصر التكنولوجي، ولما استمر شعر المتنبي الذي لم ينل جائزة نوبل لأنه نال جائزة الأبدية، ولما بقيت طواحين الهواء تدور مع دونكيخوته وثربانتس، ولما صمدت الآثار السورية المعتبرة من التراث الإنساني العالمي أمام هذه الحرب الظلامية الكونية.
إذن، ليكتشف كل منا بصمته الروحية المختبئة في أعماقه، لننجز عملية البناء بتطوير مستدام، وهذا لن يتكامل إلاّ من خلال المسرعات المتكاملة بين الوعي الفردي والجمعي على كافة الصعُد الحياتية.
وحرصاً علينا، نتساءل: ماذا لو طبّق كلٌّ منا الآية الكريمة:”إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”، ولعل هذا ما أشار إليه ليو تولستوي:” الجميع يفكر في تغيير العالم، ولا أحد يفكر في تغيير نفسه”. فلماذا لا نحاول أن نغير أنفسنا نحو الأفضل والأجمل، ونتعاون على البرّ والتقوى، والمزيد من المناعة والحصانة الداخلية، لتزداد ضمائرنا ازدهاراً، وقلوبنا يقيناً، وعملنا إبداعاً، ومجتمعنا ثقافة حياتية ورقياً أخلاقياً؟
ولربما، نتساءل: ماذا علينا أن نعمل كأفراد؟
لنجرب أن نحارب أنفسنا الأمّارة بالسوء، ونعقلها بالخير والنور والصبر الحكيم الملون بالمحبة والهدوء، ونستمر رغم التحديات بالعطاء والإبداع، ونتحدى الظلمات بأنوار أرواحنا، ونضيء الوعي والعقل والقلب بالأمل والعمل، وإذا ما فعلنا ذلك جميعاً، استعاد الشعاع توازنه لأن ما ينفع الناس يمكث في الأرض، ويظل الزائل هو الفاني، والفاني هو الزائل.