رأس المال الخاص.. جهل أم تخاذل؟
على ما يبدو وبناء على ما يقدمه الواقع الثقافي اليوم، فإن رأس المال الخاص في البلاد، لاتعنيه ولا تشغل باله الصناعة الثقافية غير الربحية، في مختلف الميادين الثقافية -الآداب والفنون بأنواعهما- وهي واحدة من أهم الصناعات التي يشتغل عليها كل من المال العام والخاص في معظم الدول، خصوصاً في تلك التي تمرّ بمراحل عصيبة من تاريخها، كونها تستثمر في الإنسان أولاً، وهو الأهم، وما يحدث عادة حين يصيب القطاع العام ما يصيبه في المصائب الكبرى كالحروب مثلاً، فإن رأس المال الخاص، يكون له تدخله الثقيل والضروري في رعاية الفنون والآداب، ودعمها بكل ما يلزم لنهضتهما ورفعتهما، ففيهما نهضة المجتمعات ورفعتها؛ هذا ما حدث في أوروبا عقب الحرب العالمية الثانية، وما حدث في أمريكا بعد ما عرف بـ”الكساد الكبير” وما حدث ويحدث في مصر عقب ما مرت به من عواصف في العقد الأخير، وما حدث ويحدث في بعض الدول العربية الأخرى، التي عانت من ويلات مختلفة كتونس والجزائر، لبنان والأردن، وغيرها.
هذا العماء عن أهمية أمر بهذا الثقل الاجتماعي في الأثر، إن دل على شيء، فهو يدل على الجهل الشديد وانعدام الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية أولاً والفكرية ثانياً، المصاب به هذا المال، وعلى سوء فهمه المزمن لقيمة الصناعة الثقافية غير الربحية مادياً، فلم نسمع طوال سنوات الحرب، عن مؤسسة ثقافية فكرية خاصة، تُعنى بالتوجه نحو الشأن الثقافي بمختلف صنوفه، على غرار المؤسسات الثقافية الكبرى، التي تنشط في دول قريبة، وتصرف مالاً وفيراً في هذا القطاع، لإيمانها بالربح الإنساني أولاً الذي ستجنيه، وما سيكون لتدخلها الإيجابي في هذا القطاع، من نتائج تنعكس إيجاباً أولاً على البلاد وأهلها!
الغريب أن الثروات التي يراكمها رأس المال الخاص هذا، وهي ليست بالقليلة، يتم صرف الكثير منها على الملذات الشخصية، وعلى الملأ دون أي وازع من ضمير، من كون العديد من القطاعات الخدمية والثقافية، تعاني وبشدة من ضعف في تمويل يرفع من سويتها، ويعطيها القوة للاستمرار وبالتالي إحداث التأثير الفعال في البنى الاجتماعية والثقافية!
السيارات الفارهة التي تعبر الشوارع وكأنها لفاتحي الأندلس، ماركات الألبسة المستوردة للوكالات الأجنبية التي يشيدون قصورها، والتي يساوي ثمن أقل قطعة فيها، ثمن خمسة عشر كتاباً بمواصفات فنية ممتازة، مطاعم وكافيات النجوم السبعة والخمسة، والتي تنتشر كالسرخس هنا وهناك، وسعر وجبة الطعام فيها، يعادل سعر 100 تذكرة من تذاكر الدخول لعرض مسرحي! صالات الألعاب والتسالي “الهاي” المصممة خصيصاً لهذه الطبقة “الماسيّة” مظاهر البذخ الخرافي في إقامة الحفلات والولائم الخاصة، وغيرها الكثير من المظاهر التي تدل برعونة، على الثروات الهائلة التي تكتنزها هذه الطبقة، والتي لا تستثمر منها في هذا القطاع الحيوي والضروري، إلا فيما ندر، ما يجعل السؤال عن فهمها الفعلي لطبيعة المرحلة الحرجة التي تحياها البلاد، سؤالاً ملحاً بل ومن الواجب طرحه من قبل مؤسسات الدولة المعنية أولاً، والتي لم تستطع حتى اليوم أن تقيم مع هذا المال، أي شراكة فعالة، يُبنى عليها في إقامة مشاريع ثقافية مستدامة، والواقع لا يخفي نفسه!
بالتأكيد رعت بعض المؤسسات المالية الخاصة قبل الحرب، بعضاً من الفعاليات الثقافية والفنية، ولا ننكر قيام بعضها خلال الحرب، ببذل شيىء من الجهود الخجولة لهذا المال في هذا المجال؛ تقديم الدعم لهذه الفنانة أو ذاك الفنان في إقامة مهرجان هنا أو هناك، رعاية حفل موسيقي، معرض تشكيلي، وغيرها، لكنها جهود كما قلنا خجولة، لم تستطع أن تؤسس لحالة ثقافية مستمرة، تنتج وفي مختلف الظروف، فكراً وفناً ومعرفة، يكون لها دورها الفعّال في بناء المجتمع ودعمه، بما يجعله أكثر منعة ومناعة، ضد ما يتعرض له من حرب شرسة، ليس على لقمة عيش أبنائه فقط، بل على ثقافتهم وفكرهم وفنهم.
رأس المال الخاص اليوم، مطالب وبشدة، بتقديم الدعم الفعّال للمشاريع الفكرية والثقافية والفنية، وبالعمل المخلص على الاستثمار الحقيقي فيها، فبناء الإنسان لا يكون بتقديم معونة غذائية -على ندرتها- تلتقطها الكاميرات على حين غرة فقط، بل بتقديم ما يقي روحه من العطب، وفكره من الخلل وقلبه من الحقد!
قلنا رأس المال الخاص، ولم نقل “نُخب” وفي هذا ما لا يخفى على لبيب!
تمّام بركات