روسيا والأطلسي… مرحلة “كش ملك”
محمد نادر العمري
صحيح أن حلف شمال الأطلسي والمعروف بـ”الناتو” هو مجموعة دول متحالفة بين الولايات المتحدة الأمريكية بالإضافة لكندا وأوروبا، إلا أنه يعتبر من وجهة نظر مسؤوليه أنه من موقع انتشاره وتعدّد الدول التي تضمّه ومساحته الشاسعة يواجه تحديات عالمية، مثل الإرهاب وموضوع اللاجئين والهجمات الإلكترونية وقوة الصين المتنامية، لكن يظل مستقبل علاقته مع الاتحاد الروسي وطبيعة العلاقة غير المستقرة بين الجانبين هو الأهم، من حيث الصراعات الجيوسياسية بينهما، وقضايا نشر الدرع الصاروخي، وسباق التسلح، وتراكم القدرات الدفاعية والهجومية، والتهديدات العسكرية التي تنعكس بشكل أو بآخر في اتباع سياسات أكثر صرامة، وخاصة مع توازن القوى الذي تبلور بعد أحداث جورجيا 2008، وهو ما سيدفع الناتو وفق التصريحات الأخيرة لتبني المفهوم الاستراتيجي الجديد في قمة الناتو في صيف عام 2022، والتي سيتمّ اتباعها خلال السنوات العشر القادمة، وقوام هذه الإستراتيجية هو ارتفاع وتيرة التصعيد باتجاه روسيا وتغييب احتمالات التعاون واستمرار التنسيق والحوار.
كل هذه الأمور دفعت وزارة الخارجية الروسية منذ أيام لتحديد الشرط الأساسي لتطبيع العلاقات بين موسكو والناتو، والذي يتمثّل في تخلي حلف شمال الأطلسي عن النهج الهادف إلى ما سمّته الإستراتيجية المقبلة للحلف والمتمثل بـ”ردع روسيا”. ولتفادي تصعيد التوتر، الذي لن يصبّ في مصلحة أوروبا بالتحديد، قدمت موسكو اقتراحاً يتضمن الاتفاق على اتباع إجراءات نزع التصعيد، بما في ذلك الخفض المشترك للنشاط العسكري على طول حدود روسيا، والدول المنضمة للناتو الملازمة لحدودها، وتحسين آليات منع الحوادث والتحركات العسكرية الخطيرة.
هذه الاقتراحات الروسية كلها جاءت عقب قرار موسكو تعليق عمل بعثتها لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو) اعتباراً من بداية تشرين الثاني القادم. ولكن يلاحظ حالة التمايز التي حصلت مابين سلوك الحلف الاستفزازي وقرار الاتحاد الأوروبي المضبوط والمتزن نوعاً ما، حيث قرّر الأول التوجّه نحو طرد عدد من الدبلوماسيين الروس المعتمدين لدى الناتو، وهو ما أغضب روسيا واعتبرته سلوكاً استفزازياً وموقفاً تصعيدياً يشير إلى تصعيد الموقف وحصار روسيا، بينما تمثل موقف الاتحاد الأوروبي بشكل معاكس، متجهاً نحو تبني الحوار من جانب وثبات الموقف من جانب آخر، معتبراً أن علاقات الناتو مع روسيا مستقلة عن سياسات الاتحاد، مؤكداً على لسان مفوض سياستها الخارجية أن دول الحلف الأطلسي ليست الدول ذاتها الفاعلة في الاتحاد، وهو ما يعني أن توجهات الناتو لا تلبي مصالح جميع أعضائه ولا تصبّ في صالحهم. مضيفاً أن الحلف يضمّ دولاً من غير أعضاء الاتحاد الأوروبي، وأن أعضاء الاتحاد الأوروبي ليس كلهم أعضاء في الناتو. ويمكن القول هنا إن مواقف دول أوروبا سياسياً نحو روسيا تبعاً لموقعهم منها جغرافياً، فدول شرق أوروبا مثل بولندا وليتوانيا تتفق مع سياسة أميركا في عداء موسكو، بينما تتجه سياسة جنوب أوروبا مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا لتجاوز الأزمة مع روسيا، وهو ما يعني من جانب آخر تمايز موقف الأطلسي عن الاتحاد وهو ما سيفضي إما لتعارض مصالح الحلف مع الاتحاد في مرحلة معينة وستكون الدول مجبرة على الاختيار بين الحلف والاتحاد، أو أن الاتحاد سيسلّم ما تبقى من حريته لصالح الأطلسي والتضحية بمصالحها الوطنية، وهو ما يعني توجّه روسيا أكثر نحو الشرق وسيترسم أكثر انقسام الكرة الأرضية لدول الشرق والغرب بالمعنى التطبيقي.
إن سلوك الناتو الاستفزازي لم ينحصر في الإعلان عن إستراتيجيته التصعيدية، بل سبقها خطوات استفزازية ما يوحي بتوجّه مسبق لهذا الاستفزاز، كإقدام الناتو بداية الشهر العاشر من العام الحالي، على تجريد ثمانية من أعضاء بعثة موسكو لدى الحلف من اعتمادهم والتي جاءت بعد أن وصفهم ينس ستولتنبرغ، أمين عام الحلف، بأنهم “ضباط استخبارات روس غير معلنين”، معللاً ذلك بحجة ادّعائه بأن الحلف لمس زيادة في الأنشطة الخبيثة الروسية، على الأقل في أوروبا، وبالتالي نحن بحاجة إلى التحرك، واصفاً العلاقة بين الناتو وروسيا بأنها في أدنى مستوياتها منذ نهاية الحرب الباردة.
قبل ذلك لمسَ المراقبون والمتابعون للشأن الدولي سخونة الاجتماع الذي جمع بين الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ، ووزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أثناء الدورة (76) للجمعية العامة للأمم المتحدة الشهر الماضي، حيث قاطع لافروف ستولتنبرغ، متهماً الناتو بدعم النازيين الجدد في أوكرانيا، والتخلي عن أفغانستان. كما وصف “مجلس الناتو وروسيا”، وهو منتدى أنشئ عام 2002 لتعزيز التعاون بين الجانبين، بأنه لا طائل منه وقدّم أدلة على أن هناك أعضاء في الناتو غالباً ما يتحدون ضد روسيا، ليرد ستولتنبرغ بانتقاد الإجراءات الروسية في أوكرانيا، ودعمها لـ بيلاروسيا، وتدخلها في الانتخابات في دول الناتو.
هذا التصعيد السياسي ترافق مع تهيئة الرأي العام الغربي عموماً، والأمريكي خصوصاً في التجييش ضد روسيا، سواء لأسباب انتخابية داخلية أمريكية، أو لإبقاء الدول الأوروبية ضمن دائرة شعورها بالخطر، وهو ما أبرزته مجلة “ناشيونال إنترست” والتي قالت إن روسيا لديها خطة رئيسية يمكن الاعتماد عليها في إبادة دول حلف شمال الأطلسي “الناتو” بصورة كاملة، وتحويل غالبية أوروبا إلى ركام نووي باستخدام 189 قنبلة نووية.
صحيح أن العلاقة بين روسيا والحلف الأطلسي هي علاقة متوترة تاريخياً تعود لدائرة التنافس والصراع بين الرأسمالية والاشتراكية، ولكنها على حدّ التصريحات الروسية تجاوزت تلك المرحلة، وهي رسالة روسية ذات بعدين: الأول إعلان روسيا لعودتها كقطب دولي له دور رئيسي في التوازنات دون إملاءات، والثاني محاولة إحداث المزيد من الشرخ في العلاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي من خلال إبراز الدور الأمريكي المخرب للأوضاع الأمنية والعسكرية الأوروبية!.