القوى الصاعدة.. ودورها في النظام العالمي الجديد؟
البعث الإسبوعية- طلال ياسر الزعبي:
تحاول الإدارات الأمريكية المتلاحقة بشتى الوسائل الهروب من حقيقة الانهيار الوشيك للإمبراطورية الأمريكية، حيث لا تدّخر جهداً في محاولة الإبقاء على التفوّق الذي تدّعيه وخاصة إعلامياً، ولا تنفكّ إمبراطورياتها الإعلامية حول العالم تسوّق لهذا التفوّق عبر سلسلة طويلة من البروباغندا، وذلك للقول: إن الإمبراطورية ما زالت تسيطر على العالم سياسياً واقتصادياً وعسكرياً.
ولكنها في الوقت ذاته تعمل على محاربة جميع القوى الصاعدة على مستوى العالم، سواء أكانت هذه القوى ممّن تسمّيهم حلفاءها كما يحدث مع شركائها الأوروبيين، أم ممّن يختلفون معها في العقيدة السياسية والاقتصادية وخاصة المعسكر الشرقي الذي تمثله حالياً روسيا والصين وإيران.
وفي إطار سعيها المتواصل للإبقاء على هيمنتها على العالم التي بدأت بالانهيار بعد ظهور قوى عالمية جديدة، تسعى الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلى محاولة تأخير صعود هذه القوى بشتى الوسائل وخاصة الوسائل الناعمة، وذلك لأنها لا تستطيع مواجهة هذه القوى عسكرياً في ظل تفوّق عسكري واضح أظهرته هذه القوى في عدة مجالات، ولذلك تنوّع هذه الإدارات بين العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية التي تفرضها على هذه الدول بين الفينة والأخرى، معتقدة أن مزيداً من الضغط في هذا السياق يمكن أن يعرقل نموّ هذه الدول ويمنع تطوّرها وأخذها مكانها الطبيعي في العالم الجديد الذي بدأت ملامحه تتبلور منذ بداية القرن الحالي، حيث ساهمت مغامرات الإدارات الأمريكية المتلاحقة في تسريع انهيار هذه الإمبراطورية بدلاً من ترسيخ هيمنتها المطلقة على العالم.
تسويق العسكرة
البداية كانت عندما ظنّت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن أن باستطاعتها تكريس هذه السيطرة المطلقة عبر احتلال كل من العراق وأفغانستان على التوالي باستخدام أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001 المفتعلة ذريعة للقول: إنها قامت باحتلال هذين البلدين لمحاربة الإرهاب ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، منكرة أن الإرهاب الذي جاءت لتحاربه في أفغانستان هي ذاتها من أشرف على صناعته في نهايات القرن الماضي لإضعاف الاتحاد السوفييتي السابق في إطار حربها الباردة معه، وأن أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة ما هي إلا كذبة كبرى استخدمتها مطيّة لدخول هذا البلد والسيطرة على ثرواته، والضغط على القوى الإقليمية والدولية التي تناصبها العداء بحكم رفضها للهيمنة الأمريكية على العالم.
وفي النهاية شاهد العالم أجمع نتائج السياسات الأمريكية الكارثية في هذين البلدين، حيث أدّى احتلال أفغانستان إلى انفلات الإرهاب العالمي من عقاله، وانتشر هذا الإرهاب كالنار في الهشيم ووصل إلى معاقل صانعيه في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وبات هذا الإرهاب الذي ظنّت واشنطن أنها تستطيع التحكم به وتوجيهه كما تريد، يهدّد الأمن والسلم العالميين بشكل ينذر بكوارث على مستوى النظام العالمي بأكمله، فليست هناك أيّ دولة محمية من آثار هذا الإرهاب حتى لو كانت الولايات المتحدة ذاتها الراعية الأولى لهذا الإرهاب في العالم.
فاتورة باهظة
في إطار هذه الأكاذيب التي تستخدمها واشنطن عادة للولوج إلى محاصرة القوى الصاعدة ومحاصرتها في محاولة لمنعها من أخذ موقعها في النظام العالمي الجديد الذي بدأ بالتشكلّ على خلفية مجموعة من الإخفاقات الأمريكية في كثير من القضايا الدولية، بدأت واشنطن تصدّق هذه الأكاذيب وتطلق البرامج المتنوعة في سبيل تحقيقها، الأمر الذي حمّل الخزينة الأمريكية المزيد من النفقات لتغطية الحروب العبثية التي خاضتها هذه الإدارات ابتداء من فيتنام وليس انتهاء بالعراق وأفغانستان، ففاتورة دعم الإرهاب التي أنفقتها واشنطن في دعم الحركات الإرهابية في كل من سورية والعراق “داعش والنصرة” وغيرها، تؤكد أن هذا الأمر بالذات تم استغلاله لمصلحة الشركات الأمريكية فقط، وأن الفائدة المرجوة جيوسياسياً من كل هذا الدعم لم تتحقق، فالوضع في سورية ينذر بمستنقع جديد للجيش الأمريكي، كما أن العراق بدأ يستعيد عافيته بعد نصره الكبير على “داعش” وداعميها الإقليميين.
صعود حركات تحرر
بالمقابل، أدّت جميع هذه السياسات العدوانية للإدارات الأمريكية إلى صعود مجموعة من حركات التحرّر التي نشأت على خلفية عجز أو فشل الدول الحاضنة في حماية شعوب هذه الدول، فكان أن نشأت حركات المقاومة في كل من فلسطين ولبنان كردّ فعل على الدعم غير المحدود الذي تقدّمه واشنطن للاحتلال الصهيوني، في نهايات القرن الماضي، وامتلكت هذه الحركات مع الوقت القدرة على تطوير أسلحتها الخاصة بها التي استطاعت من خلالها إجبار العدو الصهيوني ومن ورائه الولايات المتحدة الأمريكية على التفاوض معها في كثير من المناسبات من خلال وسطاء دوليين، حيث تفاوضت ألمانيا مع حزب الله نيابة عن الكيان الصهيوني، كما تم التفاوض غير المباشر مع حركات المقاومة الفلسطينية عبر الوسيط المصري في غير مرة.
وفي العراق أجبرت المقاومة العراقية الاحتلال الأمريكي على إعلان الانسحاب من العراق في عام 2011 بعد احتلال استمر نحو ثمانية أعوام، وترسّخ هذا الانتصار بتمكن حركات المقاومة العراقية من القضاء على البنية التحتية لـ”داعش” الذي استخدمته واشنطن مطيّة للعودة إلى العراق مجدّداً، وبرز دور حركة أنصار الله في اليمن بقوة على خلفية العدوان السعودي الأمريكي على البلاد، وتمكّنت الحركة حتى الآن من تحرير مساحات واسعة من الأراضي التي احتلتها قوى العدوان، بل باتت تهدّد بنقل المعارك إلى داخل أراضي العدو، فضلاً عن قدرتها على استهداف قوى العدوان في أي مكان في خليج باب المندب والتحكم بقوة بخطوط الملاحة في البحر الأحمر، والقدرة على استهداف السفن الإسرائيلية هناك، بالإضافة إلى تهديدها القوات الأمريكية الموجودة في الخليج.
نتائج عكسية
كل هذه النتائج جرّتها السياسات الأمريكية الخاطئة على مستوى المنطقة والعالم، وهي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الأمور بدأت بالفعل تخرج عن سيطرة الولايات المتحدة وتتجاوز قدرتها على التحكم بالألعاب الخطيرة التي تمارسها في مناطق كثيرة من العالم، الأمر الذي أفسح المجال تلقائياً لمجموعة من القوى الصاعدة في العالم لسدّ هذا الفراغ الذي تركته واشنطن في كثير من القضايا الدولية والحلول محلها بشكل كامل في كثير من الأحيان، والدليل على ذلك أنها باتت عاجزة عن فرض هيمنتها على منطقة الخليج بوجود لاعب قوي كإيران في المنطقة لا يمكن تجاوزه، كما أنها لا تستطيع المضيّ في أيّ أمر بالنسبة للوضع في شرق المتوسط دون تنسيق مسبّق مع روسيا في هذا الإطار، هذا فضلاً عن أنها تحاول جاهدة تجميع حلفاء لها في منطقة آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة النفوذ الصيني هناك بعد أن كانت صاحبة الكلمة الأولى في هذه المناطق.
أخيراً
والحال أن التخبّط الأمريكي في معالجة مجموعة من القضايا الدولية أدّى في كثير من الأحيان إلى نتائج عكسية أدّت بدورها إلى إفلات مقاليد الأمور من يد واشنطن، بل أظهر بوضوح أن الإمبراطورية الأمريكية نفسها باتت على وشك الأفول، وليس هناك أدلّ على ذلك مما قاله رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية اللواء محمد باقري من أن ما نشهده اليوم من تطوّرات يظهر بداية عصر أفول وضعف الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة، حيث أكد أن “الانسحاب الأمريكي من أفغانستان وبدء إجلاء قواتها من العراق ونقل معدات الدفاع الجوي والصاروخي الأمريكية المتقدمة على طول الخليج وخفض قواتها البحرية ونقلها إلى جنوب الصين هو مؤشر على تراجع القوة الأمريكية في المنطقة”.