النهر العظيم والهادر للانتصارات النهائية
بسام هاشم
من الواضح أن المنطقة تودع عقداً عاصفاً من التحولات الكارثية، ولكن من المؤكد أنها لم تدخل بعد عقداً جديداً تماماً.. وهناك ذيول وتداعيات لا تزال تفعل فعلها، ولكن هناك إرهاصات قوية وهائلة توحي بأننا على أبواب متغيرات تاريخية، بل وثورية بكل معنى الكلمة، ليس في الشرق الأوسط وحسب، بل ولربما في العالم!! ذلك أن مجرد نظرة عابرة إلى مضمون السياسات الأمريكية في المنطقة راهناً تحيلنا إلى التدهور والتراجع على أكثر من مستوى: مستوى تعاطي الإمبراطورية الآفلة مع ملفات المنطقة أولاً، ومستوى تعاطيها مع “الحلفاء التاريخيين” ثانياً، ومستوى علاقة الحلفاء مع بعضهم البعض ثالثاً؛ والقاسم المشترك بين المستويات الثلاثة هو الانسحاب والتفكك والمحاولات المستميتة لإعادة هيكلة التحالفات على أسس جديدة أشد عدوانية وشراسة وتخبطاً.. وقابلية للهزيمة أيضاً؛ خاصة وأن تكلفة الحرب على سورية، والعبث بالتوازنات الإقليمية لمرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وحقبة الأحادية الأمريكية، فجّر مع مطلع العقد الحالي سلسلة هائلة من التحولات العكسية والمرتدة؛ فعدم الاستقرار السياسي والإيديولوجي لا يزال طابعاً سائداً في ظل سلطة تنفيذية مزدوجة الرأس، ومفتوحة على سائر التناقضات، في “إسرائيل” ما بعد نتنياهو، والديكتاتور الإخواني في تركيا يزداد عزلة داخلياً وخارجياً، ومعه نظامه الرئاسي التسلطي وطغمته الحاكمة تحت يافظة إسلام “العدالة والتنمية”، أما في ممالك ومشيخات البترودولار فالأوضاع تتخذ منحى تصعيدياً خطيراً، ونحن أمام مشهد سياسيات يومية تهجمية وشبه انتحارية تقوم على مبدأ الإخضاع المطلق والاستتباع الكامل أو الإلغاء والمقاطعة، وهو المنطق ذاته الذي جعل من المرتزقة والتكفيريين أخيراً وقوداً و”ضحايا” مجانيين لنوع من إعادة قراءات لا تعرف الرحمة. والمحصلة هي أن القوى التي كانت دعمت “الربيع العربي” قبل أكثر من عشر سنوات، أو ركبت موجته، أو ورطت نفسها في مؤامرة تحويل المشرق العربي إلى ساحة مفتوحة للإجرام الدموي والإيادة الجماعية تحت شعارات طائفية، في منتهى الوضاعة والانتهازية الدينية والأخلاقية، تمارس اليوم الانحرافات ذاتها، ولكن على الساحة الداخلية كأزمات مستوطنة ومقيمة لا يمكن تخطيها دون تراجعات حتمية وتنازلات باهظة الثمن، بل وتقبل هزائم مدوية هذه المرة.
ما الذي ستواجهه سورية، ومعها إيران وحزب الله، وكل الأحرار والشرفاء الذين تم – ويتم – إخضاغهم لشتى صنوف العقوبات منذ أكثر من أربعين عاماً، ومع ذلك فهي ما زالت حاضرة وواقفة ومؤثرة، لا يمكن تجاوزها، ولا قهر إرادتها؟
لم يستطع أحد مسح سورية عن الخارطة الجغرفية، ولا عن خارطة النفوذ والتأثير، رغم المؤامرة الجماعية التي حيكت ضدها بكل ما انطوت عليه من مشاريع تقسيم وتفتيت وإضعاف وتدمير وإنهاك ومحاولات تلويث سمعة!! ولم يتمكن كل الغباء والحقد الإجرامي أن يدفع سورية للتراجع عن مواقفها وثوابتها الاستراتيجية. وعلى العكس، فهي اليوم على مشارف مرحلة جديدة تعتصر خلالها خلاصة سنوات المحنة الطويلة، لتتقدم في موكب الحرية الطويل الذي ينتفض اليوم في شتى بقاع العالم على إمبريالية الهيمنة وطغاتها الفاشلين الذين إنما كانوا يحفرون قبورهم بأيديهم حيث كانوا يحلمون بإمكانية فرض سيطرتهم وعنجهيتهم ومصالحهم على العالم!! أما أولئك السذج الذين يهللون لعودة سورية إلى “الجامعة العربية”، وإلى “المجتمع الدولي” – كما يتصورون هذه العودة – فهم يصرون على دفن رؤوسهم في الرمال، متشرنقين في ذهنيتهم السكونية، وعاجزين عن فهم أو استيعاب الديناميكيات التاريخية في جدليتها الخلاقة، فالحرب الهجينة لن تؤول إلا إلى تقوية سورية، حتماً، طالما أنها أخفقت شر إخفاق في تحطيمها، لا بل لن تكون هذه الحرب إلا انتصاراً لخياراتها الأساسية في المنطقة والعالم؛ ولن نقول إن الجامعة عائدة إلى سورية – كما يحلو للبعض – ولكن من الضروري والبدهي التأكيد على أن الجامعة – كما هي معروفة الآن – مرفوض أن تيقى على حالها. والأمر ليس ببعيد عن الأمم المتحدة التي انقلبت إلى مؤسسة دولية فاقدة للاستقلالية والحيادية، تهيمن عليها وتتحكم بها الولايات المتحدة الأمريكية، بحيث حولتها من منتدى للضعفاء إلى منبر لتبرير العدوان والاعتداء على السيادات الوطنية والتدخل في شؤون الدول، وإضفاء الطابع “القانوني” على كل ما هو غير مشروع، ومخالف لمبادئ ومواثيق تأسيس الأمم المتحدة.. إنه عالم من شريعة الغاب بات عليه أن يتغير.. عالم من الصلف، والعنجهية، والغباء، والمحدودية، وقصر النظر، لم يعد مقبولاً ولا متحملاً.
ولكن التغيير آت لا محالة، وبأسرع مما يتصور بعض الواهمين والمنفصلين عن الواقع. وكل لحظة وكل ساعة، يراكم معسكر المقاومة، من هنا ومن هناك، عشرات الانتصارات الصغيرة والجزئية التي ستصنع في أقرب فرصة النهر العظيم والهادر للانتصارات النهائية.