الصفحة الاخيرةصحيفة البعث

مدن الحضارات

ناظم مهنا

المدن، تعبير عن المدنية، والعمران، والاستقرار، وهذه المدن الحضارية التي تنتظم في جغرافيتنا، معظمها مدن قديمة أسست فيها الحضارات واحدة فوق أخرى، هي اليوم مستهدفة، بكلِّ أشكال الخراب والدمار، يستهدف فيها الحجر والبشر، وفق منهجية معلنة وغير معلنة!

لماذا تستهدف مدننا الحضارية في المشرق والمغرب العربي؟! قد يكون للسؤال عدة إجابات، ولكن الحقيقة واحدة، هي أن المدن العربية الواحدة تلو الأخرى، تهبُّ عليها رياح السموم العاتية! مدننا مرَّت عليها الأحقاب وعرفت الحروب والغزو وعرفت السلام والهناء، لكلُّ واحدة منها تاريخ وحكايات، ومعالم، وقلاع، وأسواق، وحيوات، وشعراء، آداب وفنون، وأحياؤها القديمة الباقية رغم عاديات الزمن، هي هوية إنسانها المثقل بالتاريخ، ومدننا، بعجرها وبجرها، بحسنها وقبحها، وما بين هذا وذاك، تشبهنا! كما كل المدن القديمة، لماذا تمتد أيد من وراء البحار وتعبث فينا؟! هل استضعفونا، أم علينا أن ندفع ثمن أننا ورثة حضارات، ومدننا مقصد للسياح، أم هي تصفية حساب بين الحضارة الجديدة والحضارات القديمة؟!!

الزائر لأمريكا إذا أراد أن يزور المتحف القومي في واشنطن، وهو بناء كبير جداً من بضعة طوابق، ماذا سيجد؟! في أحسن الحالات سيجد جناحاً للعاديات التي تعود إلى أول عربة ترام أو عربة قطار بخاري، وسيجد ركناً للأسلحة النارية لسكان الجنوب الأمريكي، وبندول فوكو، ربما مُهدى إليهم لإغناء المتحف، وسيجد جناحاً لفساتين زوجات رؤساء أمريكا المتعاقبين، وعدداً كبيراً من الأشياء المملة.. والأبلغ من كلِّ هذا، هو الاعتذار اللبق والملغوم وكأنَّه تهديد من الدليل السياحي الذي يعتذر منك إذا عرف أنك من سورية أو العراق أو مصر، قائلاً: «نحن بالنسبة لكم أطفال نحبو في الحضارة!» أليس في هذا القول تعبير عن عقدة الحضارة، إذا جاز القول؟! يخيل لي أن بعض الأمريكيين يتميز غيظاً في أن تكون لك حضارة تتباهى بها! أن يقول العراقي مثلاً: «أنا من بلد أول تشريع في التاريخ ومن عندي خرجت لفظة حرية أول مرة!» ويقول السوري: «أنا من بلد أول أبجدية، واكتشف أجدادي «الفينيقيون» هذي الأرض التي تقيمون عليها قبل ألفين وخمسمئة عام!» ويقول المصري: «أجدادي بنوا الأهرامات والمسلات المصرية التي تضعون واحدة منها هنا في واشنطن، سرقتها فرنسا من بلادي وأهدتها لكم!» وقس على ذلك، قد يقول الليبي واليمني والهندي والصيني وحتى الأوروبي..

ربما يهزّ الأمريكي رأسه موافقاً ومخفياً غيظه بابتسامة، ويقول في نفسه: «أنا العالم الجديد، وأنا القوَّة!» وإذا انفرد مع شيطانه سيقول له الأخير: «لا تقلق، أنت القوَّة الأعظم على الأرض، وإذا كان من المتعذر أن تغيّر الجغرافيا، فبالإمكان العبث بالتاريخ، وخلق بعض الانزياحات في الخرائط،، وتدكيك المدن، وتغذية الانشقاقات، وما عليك إلا أن تلعب في الظلام، بل في الليل وفي النهار..». مدن فلسطين اغتصبتها «إسرائيل» ذراع أمريكا، واجتاحت بيروت، وصيدا، وصور، واحتل الأمريكيون كامل العراق، ويستهدفون اليوم حلب ودمشق والمدن السورية، وعينهم على الإسكندرية والقاهرة وصنعاء والحبل على الغارب! تحطيم الدول بعمرانها وجيوشها، وتحويلها إلى مدن تفتقر إلى المركزية، ثم تقطيع أوصال المدن المركزية، وتحويل الجيوش إلى قوة شرطة وحراسة، ويزعم البعض أن الهدف من ذلك هو العودة إلى فوضى ما قبل الحضارات. يكتب منظّرهم البريطاني المستشرق المتأمرك برنارد لويس في كتابه «الهويات المتعددة»: حافظت بعض الدول العربية على نفسها «بسبب وجود مؤسستين عميقتي الجذور، هما الدولة والجيش»… ألا يغري هذا باستهداف هاتين المؤسستين؟ ومن المعروف أن برنارد لويس يقدم نصائح شفهية للأمريكيين بشأن المنطقة من منطق العارف.!