ثقافةصحيفة البعث

صباح فخري مكتبة شعرية وموسوعة غنائية عالمية

حلب-غالية خوجة

لماذا دخل المطرب المبدع صباح فخري بوابة الأبدية؟ وكيف مضى بيوبيله الألماسي الغنائي منتشراً مثل الضوء في كل مكان من سورية والعالم العربي والأجنبي؟ ما أسرار الأغنية الخالدة التي تسري في دمنا، ونستطيع الاستماع إليها والتأمل فيها بعيداً عن اللحظة المحدودة؟

ليس فقط لأنه كان مؤذناً يتمتع بأذن موسيقية، ومتقناً للغة العربية وتصاريفها ونحوها وقواعدها بين الصمت والصوت والتجويد، وليس فقط لأنه يدرك مخارج الحروف ومداخل المعاني ليوصل لقلبك من خلال أذنك عالماً من الموسيقا، بل إضافة لذلك، امتلاكه لصوت وهبه الله إياه، ولأذن موسيقية تدرك النشاز حتى في الوتر الخامس من آلة القانون، ودقته في الفن الذي يقدمه لحناً وكلمة وأداء، معتبراً الفن رسالة إنسانية ومحبة لا تنتهي، ولا يحدها زمان ومكان، فهو يعرف كيف يختار القصيدة، الموشح، القد، الموال، وكيف يوظف موسيقا الكلمات مع موسيقا الآلات، وكيف يهندسها في النسق الوجداني الفردي والجمعي، ويطورها، ليجعل الدلالة العميقة من الهدف الطربي تلامس الحالة الذاتية للإنسان ومشاعره، وتتغلغل في الحالة النفسية للمجتمع، ثم لتصل إلى الإنسان أينما كان ويكون.

تراث إنساني

حصل صباح فخري على وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة عام 2007، تقديراً لمسيرته الطويلة والاستثنائية، التي تمتد لأكثر من نصف قرن في مجال الغناء الأصيل، كما شغل مناصب عدة، فانتخب نقيباً للفنانين السوريين، ونائباً لرئيس اتحاد الفنانين العرب، ومديراً لمهرجان الأغنية السورية، واكتملت حلب كعاصمة للثقافة الإسلامية والعربية بحضوره الشاهق، ودخل موسوعة “غينيس” لغنائه في فنزويلا لمدة 10 ساعات متواصلة، كما أن صباح فخري أشرَفَ على إنجاز ملف القدود الحلبية الذي أعدته مؤسسة الأمانة السورية للتنمية، والذي تم تقديمه لمنظمة اليونيسكو بهدف تقييم الملف لتسجيل القدود الحلبية على لائحة التراث العالمي للإنسانية 2021.

وخلال السنوات الماضية، تلقى صباح فخري، بتوجيه من الرئيس بشار الأسد، كل العناية والرعاية الصحية من خلال وزارة شؤون رئاسة الجمهورية، ومع تدهور حالته الصحية خلال الأيام الماضية متأثراً بأمراض في القلب نُقل إلى مستشفى الشامي بدمشق، لكنه فارق الحياة، وعاد ليستقر في مدينته حلب إلى الأبد بجنازة مهيبة.

صوت بأبعاد كونية

ويعتبره أهالي حلب قلعتهم الثانية، وأسطورة الغناء، ولا يمر يوم دون أن تستمع لصوت فخري في كل مكان، فيطمئن قلبك، وتقشعرّ روحك، وتذهب في حالة من الفرح والحزن، كونه إنساناً مبدعاً يعرف كيف يتسرب إلى مشاعرك بعفويته، ووجداناته المصقولة بالرقي، فتشعر بجاذبية أكبر من جاذبية نيوتن، وبفضاء يعاكس نسبية أينشتاين، ليجعل الفضاء عالماً موسيقياً مطلقاً، يتمازج بإيقاعات متكاملة بين الكلمة والصوت واللحن، فتغرق الغيوم في لحظاتها القادمة، متنقلة بين الإحساس الرومانسي، والسرد التصويري، والحكاية، والرواية، والمشهد، والقصيدة بعوالمها الأصيلة والحديثة، ومحيطاتها وبحورها السابحة بين عالم متجدد واقعي، وجودي، وروحي ينشد معه “اسقِ العطاش”.

صوته أوركسترا شرقية

عن الأثر الخالد لهذه الموسوعة الموسيقية الإنسانية، ضج الفضاء الواقعي والفضاء الالكتروني، من سوريين وعرب ومستشرقين وأجانب كلٌ يعبّر بطريقته عن فقدان هذه الأيقونة الحلبية العالمية، التي يتمنى أهالي حلب أن يسمعوا الآذان بصوته يومياً في إحدى الصلوات الخمس، لا سيما وأن صوته الأوبرالي كان عبارة عن مجموعة “أوركسترا شرقية” كاملة، ويتمنون من الجهات المختصة تسمية شارع باسمه في حلب على الأقل، ولقد واكبت “البعث” ما يكنّه له الجميع ومنهم الأدباء والفنانون والمسؤولون في حياتهم وذكرياتهم وأحلامهم ومستقبلهم من خلال هذا الاستطلاع.

عرش الفن سيبقى شاغراً

أصرّ الشاعر الغنائي صفوح شغالة على جملته الأولى: تيتمت حلب بعد رحيلك، وعرش الفن سيبقى شاغراً، ليعبر بها عن مشاعره، ورؤيته للحظة الحالكة التي يعيشها الحلبيون والسوريون والعالم لفقدانهم شيخ الطرب، وملك الموشحات والقدود الحلبية والغناء العربي صباح فخري.

 

وتابع شغالة: مطرب حفظ التراث وأرشفَهُ وطوره وأعاد توزيعه، وتألق في مجمل نتاجه الطربي الإبداعي، وتألق في مسيرته الفنية، خصوصاً، في “خمرة الحب”، لأنه مزج فيها بتناغمية بين القديم والحديث، وهذه هي ثيمة القصائد والمواويل والموشحات والأدوار والقدود الحلبية، لأن عمله الإبداعي أكاديمي، واشتهر بجميع ما قدمه متفرداً، وكان ينتفي من الشعر النصوص القديمة بدقة، وغنى قصائد لفطاحل الشعر من حلب وسورية والوطن العربي، مثلاً:”سلي فؤادي عن الخضراء يا حلب” للشاعر التونسي أحمد الغربي.

وأردف شغالة: أرشيف فخري مميز، نادر، ولن يعمل وسيعمل مثله أحد، لأنه أكاديمية بحدّ ذاته، ولا يمكن مجاراته بعطائه واجتهاده، وحفظه، وتوزيعه، وموشحاته وأدائه المتفرد جداً، وامتيازه بمخارج الحروف من مدّ وقصر، ومتفن لأحكام التجويد، ويكفيه فاصل “اسقِ العطاش تكرماً”، لحّن معظم قصائده، وكان له “ستايل” معيّن بالموال، هو علاّمة وعلامة في الموسيقا العربية والعالمية، ويمتاز بدقة هندسة الصوت لأنه ينفذها بيده، علاّمة بالشعر، ومن الممكن أن يكون شاعراً، وذواقة، وهو مكتبة شعرية متنقلة، كما أنه يحفظ القرآن الكريم، وكان يؤذن الفجر في بعض حفلاته التي تمتد لوقت الآذان.

توغل في التراث والحداثة

بدوره، تحدث الباحث محمد قجة عن العملاق الحلبيً: إنه شخصية استثنائية قدمت الفن الراقي والطرب الأصيل، وملأ بتفرده الخاص المكان والزمان، وحنجرته ذهبية، ويمتاز بصوت رجولي ندي محبوب، ولغة سليمة بليغة، ونفس طويل في الغناء ساعات وساعات، ودخل الفضاء الفني مبكراً، منشداً في الزوايا الصوفية المنتشرة في حلب، وأهمها الزاوية الهلالية التي خرجت كبار المطرببن في حلب، وازداد توغلاً في التراث الممتد عبر آلاف السنين، بين موسيقا الفارابي، وغزارة الموشحات الأندلسية، وكان له دوره الهام في إحياء تلك النصوص والألحان، وإضافة ألحان أخرى جديدة، مثل خمرة الحب اسقنيها.

وأضاف قجة: تعود علاقتي بصباح فخري لأكثر من أربعة عقود مطرباً، نتابع نشاطه ونحضر حفلاته ونستمتع بصوته وأدائه المتميز، وهذه العلاقة توطدت بيننا خلال احتفالية حلب عاصمة للثقافة الإسلامية لعام 2006 التي افتتحها بصوته، وواصل معها حفلاته على المسرح المخصص للاحتفالية، ومسرح قلعة حلب، وكان خير ممثل لحلب المحروسة وتاريخها وتراثها.

 

واختتم: ذات مرة، وبينما صباح فخري جالس في منزلي كما يحدث بين مدة وأخرى، صادفت زيارة الروائي المصري جمال الغيطاني لمنزلي أيضاً، وكم كان مسروراً بلقائه، ثم أخبرنا أن النخبة المثقفة في مصر تستمع لصباح فخري باهتمام، كما أنهم شكلوا “رابطة محبي صباح فخري” في القاهرة برئاسة عمرو موسى.

أضاف لثقافات العالم

واعتبر أحمد الغريب مدير قلعة حلب صباح فخري أحد قامات الفن الخالد، لأنه استطاع بعبقريته الفنية تجاوز حدود الوطن ليصل إلى ثقافات العالم، وأكمل: إنه لا يقل شأناً عن سيد درويش وغيره، واليوم يغادرنا هذا الهرم، لنخسر قاموساً ومعجماً لفن الموشحات والأدوار الحلبية، وتظل روحه مرفرفة في سماء الفن.

الدهر يُنشد

بينما اختزل الكاتب عبدو محمد سهادته بدلالات عميقة: أيقونة حلب، عرف بها وعرفت به، أشهرته وأشهرها، منها انطلق يصدح بقدودها وإليها عاد ليحتضن ترابها وتحتضنه ابناً باراً، هو ذاك الذي مضى مأسوفاً على رحيله، لكنه ترك للدهر أن يُنشد روحه الباقية.

قيثارة العشق

ورأى معن الغادري مدير مكتب البعث بحلب أن صباح فخري يضاهي قيثارة هوميروس لأنه عزف بصوته المثقف العشق والحب والمحبة، ودخل الذاكرة والتاريخ وا‎‎لوجدان دون خروج، مؤكداً أنه الروح المتجددة على أبواب قلعة حلب وسفح قاسيون، لأن صوته السحري الساحر سيظل فواحاً في جميع الأمكنة والفضاءات، تغني معه الطبيعة والبشر.

أسكر التاريخ طرباً

ولفتَ التشكيلي إبراهيم داود إلى مفهوم الرحيل والخلود بقوله: رحل الفنان القدير صباح فخري عنا جسداً وبقي روحاً ورمزاً من رموز حلب، وقامة من قاماتها، فعندما كان يعتلي المسرح يبدأ بالقدود ويغدو صوته شريطاً وصوراً من الذكريات لحلب وتاريخها الفواح منذ القدم برائحة أزقة الشهباء وقسمات صوت المتنبي مروراً بسيف الدولة والمعري وصوت المآذن التي يصدح صداها بين جدران القلعة ويلامس أثواب الدراويش والمتصوفة، ثم يخرج هذا الصوت المعتّق بالإبداع  ليصيب جمهوره المفتون بالمتعة، رحم الله الفنان القدير صباح فخري الذي أسكر عشاقه طرباً.

اكتشفت سره

وعن ذكرياته مع صباح فخري، قال د.فايز الداية: المرة الوحيدة التي التقيت فيها بالفنان الراحل صباح فخري كانت في مبنى الإذاعة والتلفزيون بدمشق، وكنت أشارك في ندوات أدبية متلفزة، ولكن الطريف أني شهدت له أكثر من حفل أثناء أسفاري منها حفل بالكويت، وعندما كنت أشارك في ندوة بالقيروان في تونس التفت والي المدينة عندما قلت: إنني أعمل بجامعة حلب، وقال: حلب القدود والموشحات والفنان صباح فخري الذي نحبه وقد سعدنا به مرات، وهنا، أشير إلى سر الأسرار في نجاح هذا الفنان فالكل يقول صوته  قوي مميز وجميل في تعبيره، وأرى أن صباح فخري حافظ على الثروة العظيمة في صوته برعايته وتدريبه الدائم، واستمر في خط التراث مع تطوير الفرقة الموسيقية، ورسم تصوراً استفاد من شيوخه عمر البطش وبكري الكردي وعلي الدرويش، ومن شخصية ريادية هي فخري البارودي.

قامة فنية 

رئيس فرع نقابة الفنانين بحلب عبد الحليم حريري بيّن أن حلب وسورية والعالم العربي عموماً خسروا قامة من قامات الفن الأصيل والعريق، معتبراً أن صباح فخري حالة نادرة قد لاتتكرر، وصوته من أجمل وأعذب الأصوات عربياً وعالمياً، وسيخلده التاريخ وسيبقى ذكره وصوته حاضراً لحقب طويلة.

المخرج العالمي نجدت أنزور قال: الفنان صباح فخري عاش عظيماً ورحل عظيماً، ورحيله خسارة كبيرة لا تعوض وسيعيش إرثه أبداً.

بدوره الفنان القدير دريد لحام قال: صباح فخري ظاهرة نادرة وفريدة، غاب عنا ولم يرحل إطلاقاً.

الفنان أحمد خيري الذي كان له شرف مرافقته لأكثر من سبع سنوات أكد أن رحيل الفنان صباح فخري خسارة لن يعوضها أحد، مشيراً إلى أنه حظي بشرف التتلمذ على يديه خلال مسيرته الفنية، ومشيراً إلى أن الراحل رحل جسداً وبقي روحاً وصوتاً ومدرسة وفناً وحضارة.

أما الفنان مصطفى هلال فأشار إلى أنه يوم حزين عندما نودع الاسطورة صباح فخري، ولكن سيبقى حياً وخالداً في ذاكرتنا وقلوبنا.

الأديب والكاتب محمد أبو معتوق وصف الراحل – بالملك – مشيراً إلى أن سورية وحلب خاصة عمّها الحزن العميق لفقدان أحد أهم أعمدتها الفنية ليس على مستوى الغناء وإنما على مستوى صناعة الذائقة الفنية الإنسانية العظيمة والجميلة، مضيفاً بأن (الملك صباح فخري لم يغادرنا بعيداً وإنما غفا ليترك تراثاً من الأغاني في كل أغنية ألف ملك) ومن هنا يتبدى بأن الفنان الراحل ساحر عظيم لم يؤثر في بيئته الحلبية فقط وإنما أثر في الساحة العربية والعالمية في المهجر والأوطان من الخليج إلى المحيط، وكل من سمع وعاصر الفنان صباح فخري يؤكد أنه من العظماء الذين يوازون في التأثير عظماء الفن العربي، كأم كلثوم وعبد الوهاب ودون ذلك لا يمكن له أن يستمر بهذا العطاء وبهذه القدرة الهائلة.

علامة الفن الراقي

بينما أكد التشكيلي خلدون الأحمد أن صباح فخري قامة استثنائية كبيرة في الفن الراقي والطرب الاصيل، أحبه العالم كله، ولن يتكرر صوته الذهبي في العالم العربي، إنه ملك القدود والموشحات.

ظاهرة فنية ألفيّة

وبإجابة يقينية، قال الفنان المسرحي غسان مكانسي: ظاهرة فنية إنسانية كل ألف عام تأتي ظاهرة غيرها، وبوفاة فناننا الكبير صرنا أيتاماً ليس فقط بحلب وسورية، بل في الوطن العربي والعالم، كان رجلاً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، وفناناً برسالة إنسانية، وسفيراً لنا في كل العالم، رحل إلى ربه وترك نتاجه الفني الإنساني، لذلك، الكبير صباح فخري لن يموت.

حلب تبكي وترقص

وبحزن تحدثت بيانكا ماضية أمين تحرير جريدة الجماهير: وسقطت دمعة حلب على رحيل من غنى لها فأطرب جدرانها وأزقتها وبيوتها، دمعة ليست كباقي الدمعات، لأنها دمعة ملؤها الحزن والألم على فقدان فنان كبير لم يعرف التاريخ الموسيقي مثيلاً له، واليوم تودّع حلب من جعلها تطرب وترقص على ألحانه وأغانيه، صدى الصوت “الفخري” الذي لا يصدح اليوم ليُطرب، بل ليُبكي، رحل من كان صوته عنوان الحفلات والسهرات الحلبيّة، من جعل حلب مقترنة باسمه، حلب صباح فخري، المدينة التي تفخر بأنها أنجبت فنانين كباراً كتب التاريخ الموسيقي اسمهم بحروف من ذهب، تبكي مودعة صباحَها، موقنة أن المبدعين الكبار لايرحلون، وصباح فخري سيبقى صوته خالداً مدى التاريخ.

سفير الغناء العربي

وبألم تحدث جابر الساجور مدير الثقافة بحلب: مدينتنا حلب وسورية تودع رمزها الثقافي والفني، سفير الغناء العربي، صباح فخري الراحل جسداً، الباقي روحاً وفناً راقياً عظيماً بيننا، كان علامة فارقة في تاريخ الغناء العربي، واختط لنفسه طريقاً سلكه خلفه مئات الفنانين الشباب، ونهلوا من علوم مدرسته الخاصة التي جددت الغناء العربي، وقد تزامن ذلك مع عمله النقابي الفني في خدمة زملائه الفنانين وكان خير ممثل لهم محلياً وعالمياً، إن صباح فخري ظاهرة فنية لن تتكرر.

قدوة جوهرية

واختصرت الإعلامية غالية صرماياتي إجابتها بين العطاء والوطن والسعادة والمحبة التي يرمز إليها صباح فخري عبْر الأجيال، إنه الإنسان الوطني الذي يقدم طل ما يملك من قدرات لبلده لكي يُسعد أهلها، ولذلك أعتبره قدوة ومثلاً أعلى.

متلازمة الموشحات

جهاد الغنيمة مدير المركز الثقافي العربي –العزيزية قال: رحل عملاق الطرب الأصيل فنان العرب، قلعتنا الثانية، الذي كان يصدح بصوته ليطرب الآخرين بأنغام القدود الحلبية والموشحات التي اقترنت باسمه وتلازمت به، لقد رحل صباح فخري، لكنه ترك حلب وسورية والعالم إرثاً موسيقياً غنائياً كبيراً، فهو تجاوز كل من سبقه أو عاصره بالغناء من خلال تسجيله أطول ساعات غناء متواصلة، إنه صناجة العصر بلا منازع.