سيمفونية أثرية تراقص لحظات حلب الفينيقية
البعث الأسبوعية-غالية خوجة
يلمس المتجول في مدينة حلب القديمة رائحة التراث وهي تلمع بين يومياتها وروادها وزوارها، لتعزف أجمل موسيقا في العالم مع رائحة الياسمين وأغصانه الرهيفة المتدلية حكايات وحكايات، مما يجعل الأزقة والجادات والشوارع تستنشق الانتصار والأمل مع كل يوم جديد، فتستعد الحجارة البازلتية السوداء لأقدام العابرين، كما تستعد العمارات الأثرية الشهيرة للتحديق في أحوال الناس فتبتسم نقوشها العريقة وتيجانها وجدرانها وأبوابها المزينة بأشكال وتشكلات فنية وتشكيلات حروفية مميزة.
متحف مفتوح على الإيقاعات
في مدينة حلب الأثرية القديمة المحيطة بقلعة حلب كمركز محوري لتوازن هذه الإيقاعات السيمفونية الحياتية التي تضم مثل الأمّ أسواقها وحاراتها وبيوتها ومحلاتها، نلاحظ كيف بدأت الحركة اليومية بالعودة إليها بعد انقطاع بسبب الإرهاب، وهذه الحركة المشهدية تردد وراء الكواليس مثلاً شعبياً يقول: إذا أضعتَ أهالي حلب فستجدهم في القلعة والمدينة القديمة وأسواق المدينة، فما رأيك قارئنا العزيز أن نمر بين الحشود المتنقلين ذهاباً وإياباً، لندخل إلى تلك البوابة المقنطرة أمام القلعة؟
البوابة ساحرة بسقفها المميز بغطائه الحجري وفتحاته الخاصة بالضوء والهواء الطبيعيين، قنطرة تؤدي إلى قنطرة، سلسلة متناغمة من القناطر يضمها سوق الأحمدية الذي استعاد حضوره الجديد، المتداخل مع سوق الحرير وسوق السقطية وأسواق المدينة الأخرى التي سينتهي ترميمها لاحقاً.
هذه الأسواق، بحد ذاتها، تحف فنية وأيقونات أثرية، تجعل مدينة حلب القديمة متحفاً حياً واقعياً مفتوحاً على مختلف أنماط الحياة وفئات الناس، ليجدوا ما يرغبون بشرائه من السلع والبضائع المتنوعة من الثياب والمكسرات والحلوى والخيوط النسيجية والأنسجة، إضافة لبعض الحرف اليدوية ومنها صناعة الأراجيح من الحبال البيضاء والزرقاء والملونة، وهي مهنة تراثية يخبرنا عنها أحد صناعها واسمه جمال الحبّال: ورثت هذه الحرفة عن أبي، ومحلنا في سوق الحبال الذي سيتم ترميمه قريباً، ربما بعد نتيجة المناقصة، أحب هذه الخيوط، وأصنع منها الأراجيح، و”المريميات” لتعليق نباتات الزينة، وأسرّة الأطفال.
وتجدر الإشارة إلى أن ذاكرة المكان تظل حية ومتوارثة من جيل إلى جيل، وهذا ما يتضح من الذاكرة الجمعية للعابرين والمارة، ومنهم أم عيسى العجوز وهي تمشي ببطء مستندة على يد ابنها: كانت أجمل ذكرياتي هنا مع أبي وأمي، وما زالت أجمل ذكرياتي لأنني أزورها مع أولادي، والحمد لله أننا عدنا إليها وعادت إلينا.
أمّا أبو هارون فرأى أن الروح رجعت إلى المكان الذي سيكون أجمل عندما يكتمل ويعود سكانه إليه، ومنهم ابنته التي في أرمينيا، وابنه الذي في ألمانيا.
سواح أجانب ومجند مجهول
وأثناء سيري في أحد الأزقة، لمحت وفداً أجنبياً يعبر السوق مدهوشاً، فحييتهم بالإنكليزية، ورحبت بهم في سورية وحلب، وكان معهم دليلهم الذي عبر بهم إلى خان “الكتّان”، فتعارفنا والتقطنا صورة لمن رغب أن يقف أمام الكاميرا، بينما كان بائع الأدوات التراثية التذكارية يحييهم على طريقته، مرحّباً بالإنكليزية ومتحدثاً بالعربية، فتعرفت إليه، وتبين أنه يعشق هذا المكان لدرجة أنه جندي مجهول كما أي مواطن سوري مخلص، واسمه محمود ميمه، الذي حدثني عن مرحلة ظلامية مؤكداً: لن أترك حلب، وأنا في المكان ذاته منذ سنين، وكان بيننا والإرهابيين 3 أمتار، وقاومنا طيلة الحرب الظالمة، وكنا ندافع ونمدّ المحاصرين في هذه المنطقة بالطعام، قمنا بواجبنا الوطني، وأثناء تلك الفترة أصبت بالرصاص الغادر مرتين، إحداهما في رأسي، وثانيتهما في ركبتي، والحمد لله شفيت، وتحررت حلب، وأعدنا الافتتاح، وها هي الوفود المحلية والأجنبية تزورنا، إلاّ أننا نأمل أن لا يتأخر الزمان علينا كي لا نظل بانتظار المستلزمات الضرورية اليومية، وأتمنى من المواطنين والتجار وأصحاب المكاتب والمحلات أن يعودوا إلى أملاكهم المغلقة، أفضل من أن يظلوا مستأجرين في أماكن أخرى، لأن إعادة التأهيل تمت، وها نحن نستعيد ذكرياتنا، ونبدأ حياتنا من جديد.
فرحتنا لا توصف
في هذا المشهد السياحي الثقافي التراثي الفني التجاري، لاحظت كيف يجلس أصحاب المحال أمام محلاتهم وهم يمضون أوقاتهم كعادتهم مع فنجان القهوة والأحاديث المتنوعة، بينما بعض الباعة، يجلسون داخل محلاتهم وهم يتابعون أعمالهم وصفقاتهم التجارية من خلال الهواتف، وهذا شأنهم بين سوق الأحمدية والسقطية وسوق الحرير، ومنهم ماهر شيحة-ـ حلويات سهرية الذي عبّر عن سعادته قائلاً: فرحتنا لا توصف بعودتنا إلى محلاتنا، والملاحظ أن ما أنجزته الدولة كان سريعاً، بينما الأهالي فينجزون ببطء قليل نتيجة ظروف كثيرة، آملين أو مقترحين، أن تكون هناك شركات تتعهد بإعادة بناء المحلات الخاصة ضمن تنسيق مالي مناسب بينها وأصحاب المحلات، مثلاً، أن يكون هناك تقسيط للمبلغ الذي ستدفعه هذه الشركات، وبذلك، تكون هناك سرعة في الإنجاز وتخفيف من الضغط على أصحاب المحلات.
لحظة فينيقية
السيمفونية الحياتية في حلب لا تتقيد بأربع حركات كما السيمفونيات الموسيقية العالمية، بل تتجاوزها إلى حركات لا تنتهي، لأنها موسيقا فينيقية تستنبت أجنحتها من رمادها وتحلق عبْر الأزمنة، وكم تشبه النباتات الخضراء الطالعات من الجدران والحجارة المتكسرة، فتطلع من كل ذرة تراب، لتحدق في سماء تحدق بها، فتلتفت مع شرودك إلى حيوية الناس وفرحهم، كما تلتفت إلى أنك وصلت معنا في هذه الزيارة إلى شارع قريب من الجامع الأموي وهو يستعيد مئذنته المربعة العريقة، وأبوابه وزخارفه وحجارته وبنائه الفريد، وهناك، التقيت برجل بنّاء، فاقتربت منه لأتعرف إليه، وسألته عن رأيه بهذه الإنجازات بين ترميم وإعادة بناء؟ فأجابني: أنا ابن المدينة، اسمي محمد عبد الرحمن صيداوي، ومكتبي تعهدات، وأرى أن إعادة البناء حافظت على عراقة المكان، الحجارة ذاتها، والنموذج ذاته، وجماليات الذاكرة العمرانية الموروثة ممزوجة مع الحداثة الفنية المعاصرة، وأكد أنه سعيد كأي مواطن باستعادة المكان لحياته القديمة مع تجديدها المعاصر، ويتمنى لو أن الزمن يمر بسرعة لتكتمل مرحلة العمران في كل شبر من حلب.
معجزة القرن
السيمفونية الأثرية الحياتية ترافقك مع كل خطوة هنا، وأنت تمشي على الحجارة، متأملاً كيف تتحرك بأرقامها لتعود إلى هندستها العمرانية التاريخية وتصير جدراناً وأسقفاً وقناطر وقبباً وتيجاناً وأعمدة، وبأشكال متنوعة، دائرية، مستطيلة، نصف دائرية، ومربعة، وكيف تميل هذه الحجارة لتعود وتضمّ الأبواب الحديدية الضخمة المحتفظة بذكريات وأحلام الغائبين والحاضرين والمتأملين لإنجازات الإنسان السوري العظيم في مرحلة “الأمل بالعمل”، المحدقين في آثار الدمار الرهيب، وآثار الإعمار المتسارع، وإيقاعاته التي تجعلنا جميعاً نقول: الحمد لله إنها معجزة.