أردوغان .. اللعب على تناقضات القوى الكبرى
البعث الأسبوعية- د.معن منيف سليمان
تتواصل سياسة رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان القائمة على مبدأ اللعب على تناقضات توازن القوى الكبرى المعنية بالصراع في منطقة الشرق الأوسط، فيتأرجح موقفه بين أمريكا كدولة عظمى تتحكم في مسار العلاقات الدولية، وبين الروس الذين بدأ معهم مرحلة جديدة من التعاون والتنسيق لتأسيس علاقات إستراتيجية، تمكنهما من تحقيق توازن قوي يضمن بعضاً من مصالح أنقرة، ولكن خوف أردوغان من الارتماء الكلي في الحضن الروسي كان وراء تودّده المفتوح لأمريكا التي رسمت حدوداً للتعاون بين الروس والأتراك يصعب أن تتخطى مصالح أمريكا الإستراتيجية.
كان للتدخل الأمريكي في سورية، أثر بالغ في قلب الموازين وتعقيد الوصول إلى إنهاء الحرب على سورية، أما التدخل الروسي في نهاية كانون الأول 2015، فقد أربك جداً الدور التركي ودعمه المباشر للمنظمات الإرهابية المسلحة، ولولا التدخل الروسي لكانت موازين القوى في سورية على غير ما أصبحت عليه لاحقاً، لكن التوتر التركي الروسي الذي أعقب إسقاط تركيا طائرة روسية في 24 تشرين الثاني 2015، سرعان ما دفع أنقرة إلى إعادة النظر في سياستها مع روسيا، فاعتذرت منها في حزيران 2016، لتبدأ مرحلة جديدة من التعاون والتنسيق معها.
وبينما كانت روسيا الحليف الرئيس للحكومة السورية، دعمت تركيا الجماعات الإرهابية المسلحة، ومع ذلك، تعاونت القوات الروسية والتركية في محافظة إدلب، في محاولة لإيجاد صيغة للحل السياسي في سورية. حيث سعى أردوغان لدفع العلاقات مع موسكو إلى أبعد حدّ ممكن.
وعلى الرغم من توافق العديد من المصالح التركية والروسية التي تفرض قدراً من التنسيق والتعاون المشترك بين موسكو وأنقرة، خاصة ما يتعلق منها بالأزمة السورية، وعلى الرغم من أن الطرفين يواصلان تعاونهما المشترك في إطار علاقات ثنائية جيدة، مكنتهما من تحقيق تعاون إستراتيجي مهم، تمثل في وصول الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر الأراضي التركية، الأمر الذي تعده الولايات المتحدة الأمريكية خطراً على أمن أوروبا التي يتزايد اعتمادها على الغاز الروسي فإن تركيا لا تزال عاجزة عن حسم خيارها الإستراتيجي، حيث يتأرجح موقفها بين الأمريكيين والروس، وإن كان من المؤكد أن مساحات التباين والخلاف مع الولايات المتحدة تزداد اتساعاً، وزاد من عمق الأزمة التركية الأمريكية إصرار أردوغان على شراء منظومة الدفاع الروسية إس – 400 بما يعرضها للعقوبات الأمريكية خاصة أنه منذ عام 2016، بات يربط بين الطرفين الروسي والتركي اتفاقية خط السيل التركي الذي ينقل الغاز الروسي إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر الأراضي التركية، وقد سبق هذه الاتفاقية عام 2010، تولي موسكو مشروع إنشاء المفاعل النووي التركي لإنتاج الطاقة الكهربائية “آك كويو” ما جعل واشنطن أكثر ريبة في سلوك أردوغان الذي تعدّه الولايات المتحدة طرفاً ضالعاً في إطار المشروع الإستراتيجي لروسيا، القائم على استخدام الغاز الطبيعي كأداة ضغط على الدول الأوروبية.
وعلى الصعيد الاقتصادي فإن حجم التبادل الاقتصادي بين الروس والأتراك تجاوز 38 مليار دولار، وتبادل الطرفان حجما ًمن الاستثمارات يزيد على 10 مليارات دولار، وتعد روسيا المزوّد الأول لتركيا بالطاقة لا سيما الغاز الطبيعي، فيما يبلغ عدد السيّاح الروس القادمين إلى تركيا قرابة خمسة ملايين سائح سنوياً، وتظهر المؤشرات الاقتصادية حجم الاعتماد الاقتصادي المتبادل الذي يوفر للبلدين فائدة مشتركة ساعد على زيادتها توجه الطرفين إلى فصل المسار الاقتصادي للبلدين عن مسار الخلاف السياسي.
وعلى الرغم من هذا التوافق الضخم في المصالح الاقتصادية المشتركة، فإن ثمة خلافات فاعلة بين أنقرة وموسكو في ميادين عديدة، أبرزها خلافهما حول الملف الانفصاليين الأكراد، وملف جزيرة القرم، حيث تدعم أنقرة رؤية الغرب لعدم شرعية ضم روسيا للجزيرة، والملف الليبي حيث تدعم روسيا موقف المشير حفتر في حين تدعم أنقرة حكومة فايز السراج في طرابلس، وملف شرق المتوسط حيث تتخوف أنقرة من مساندة موسكو للتحرك اليوناني، كما يشكل انتماء أنقرة لحلف الناتو مانعاً أساسياً يحول دون إقدامها على المزيد من المشاريع الإستراتيجية مع روسيا فضلاً عن مصاعب خروجها من توجهات الولايات المتحدة الإستراتيجية ويكاد يكون الفصل بين السياسات الاقتصادية وعدم السماح للخلافات الأمنية والسياسية بإلقاء ظلالها على مسار التنسيق المشترك بين الطرفين هو العامل المهم في استمرار الجانبين في تعاونهما المشترك في الجوانب التي يمكن أن تحقق لهما فائدة مشتركة.
ولكن خوف أردوغان من الارتماء الكلي في الحضن الروسي كان وراء تودّده المفتوح لأمريكا، لتكون علاقته مع أمريكا عنصر ابتزاز لروسيا، فكان اتفاق المنطقة الآمنة بين تركيا وأمريكا خطوة أولى على هذا النهج، لكن روسيا كانت أذكى من أن تعارض “المنطقة الآمنة”، وهي لا تستطيع عرقلتها عندما أسقطت من يد أردوغان ورقة ابتزازه لها، وأعلنت تأييدها لإقامة المنطقة الآمنة رامية أردوغان في حفرة الاشتباك والتناحر مع أمريكا، لتعود المراوحة إلى داخل “البيت الواحد”، أي بين تركيا وأمريكا. فقد تعمّقت الخلافات بين أنقرة وواشنطن حول كل خطوة في المنطقة الآمنة، فأمريكا تريد “منطقة آمنة” ليس لتركيا، بل للانفصاليين الأكراد، وتهديده بالتدخل التركي المباشر شرق الفرات.
في هذا الوقت كانت الولايات المتحدة تدعم بقوة قوات ما يسمى “قسد” شرقي الفرات بمساعدتها على تأسيس كيان لها هناك، لا يزال قائماً، وهو ما عدته تركيا تهديداً لها.
ما بين روسيا الداعمة للحكومة السورية وأمريكا الداعمة للانفصاليين شمالي شرقي البلاد، اتبع أردوغان سياسات قائمة على التأرجح والقفز على الحبال بين روسيا وأمريكا، وقد أسفرت تلك “الحركات” عن تحقيق أردوغان بعض المكاسب لم تكن في حسبانه.
هدد أردوغان واشنطن بالتعاون مع روسيا لعلها تتخلى عن دعم الانفصاليين وعن محاولة خلعه كما حصل في محاولة الانقلاب في 15 تموز 2016، فبادر إلى إبرام صفقة صواريخ إس -400 التي تم الاتفاق عليها عام 2020، كما لوَّح بإمكانية شراء مقاتلات سوخوي – 57 المتطورة جداً من روسيا، ردّاً على امتناع الولايات المتحدة تزويده بمقاتلات أف – 35 المتطورة.
في المقابل يعرف أردوغان جيداً أن التقارب مع روسيا لا يمكن أن يذهب إلى ما لا نهاية، حيث تخرج تركيا من المحور الغربي إلى روسيا، وهو في الأساس لا يريد ذلك، لكن التخبط الأمريكي في عهدي أوباما وترامب كان كفيلاً بتخريب العلاقات التركية مع الولايات المتحدة، فما بين كتلة انفصالية صغيرة في سورية ودولة إقليمية كبيرة مثل تركيا كانت الإدارة الأمريكية تختار الانفصاليين على حساب العلاقات مع تركيا.
وفي تصريحات إعلامية، قال أردوغان إنه أصيب بخيبة أمل جراء المحادثات مع الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال لقاء جمعهما بالجمعية العامة للأمم المتحدة. وأضاف أن بايدن كان “غير قادر على إيجاد أرضية مشتركة”. وتابع: “خلال المناقشات مع بايدن، لم تكن هناك النتيجة المرجوة كدولتين بحلف شمال الأطلسي (الناتو)، نحتاج أن نكون عند نقطة مختلفة”، معرباً عن تطلعه لـ”تشكيل علاقات أقرب مع روسيا” دون أن يغفل انتقاد الدعم الأمريكي للانفصاليين في سورية.
وبحسب أردوغان، فإن “واشنطن لا تحارب المنظمات الإرهابية بشكل كافٍ، إنها تقدم لهم الكثير من الأسلحة والمعدات”.
وتوترت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا على مدار عدة سنوات، وشهدت المزيد من التدهور خلال العامين الماضيين مع شراء أنقرة منظومة دفاع صاروخي روسية. ودفعت تلك الصفقة لاستبعاد تركيا من مشروع المقاتلات إف – 35 الذي تقوده الولايات المتحدة، وفرض عقوبات على مسؤولين أتراك بصناعة الدفاع.
ولدى سؤاله عن خطط تركيا لشراء أنظمة أس -400 إضافية على الرغم من التهديدات بفرض مزيد من العقوبات الأمريكية، أجاب أردوغان: “عملية إس – 400 مستمرة. ليس هناك عودة إلى الوراء”. وقد طالبت تركيا بتعويض عن استبعادها من برنامج طائرات إف – 35 المقاتلة الشبحية بقيادة أمريكا خلال اجتماع أردوغان مع الرئيس الأمريكي جو بايدن على هامش اجتماع مجموعة العشرين الشهر الماضي.
وكان أردوغان قد صرّح سابقاً: “لقد دفعنا 1.4 مليار دولار، فما الذي سيحدث؟. نحن لم نكسب هذه بسهولة. إما سيعطوننا طائراتنا أو يعطوننا المال”
وعلى الرغم من ذلك كله، يأتي الموقع الدبلوماسي لواشنطن كدولة عظمى تتحكم في مسار العلاقات الدولية، بما يضع حدوداً أمام قدرة أنقرة على اللعب على تناقضات توازن القوى الكبرى، ويحفظ للتوجه الإستراتيجي الأمريكي حجم تأثيره الفاعل على أنقرة، ويرسم حدوداً للتعاون بين الروس والأتراك يصعب أن تتخطى مصالح أمريكا الإستراتيجية.