الحركة التصحيحية فعل مركّب ونهج يستمر
د. خلف المفتاح
تعدّ الحركة التصحيحية التي قادها القائد المؤسس حافظ الأسد من أهم الأحداث التي شكّلت تحوّلاً في مسار سورية السياسي والاجتماعي، ودليلاً على دور ومكانة البعث بوصفه تنظيماً قومياً.
وبقراءة تاريخية لمسارها الذي امتد زمنياً ثلاثين عاماً وشهد منعرجات صعبة وخطيرة ومفصلية في تاريخ سورية والمنطقة العربية والعالم لجهة ما شهدته المنطقة من صراعات وحروب وتقلبات سياسية ارتبطت بالمشهد الدولي، ولاسيما بعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفييتي السابق وانعكاس ذلك على حالة الاستقطاب الدولي التي كانت قد تكرّست خلال نصف قرن من زمن الحرب الباردة، وما خلفه ذلك من إعادة تموضع لبعض الدول التي كانت محسوبة على الكتلة الاشتراكية، ومن بينها سورية بالتأكيد، وعلى الرغم من حالة السقوط المدوّي لبعض الأنظمة التي كانت ترتبط بعلاقة مع موسكو، فإن الحركة في كيفية معينة تفاعلت ونشطت وأنجزت في دوائر ثلاث هي الدائرة الوطنية والدائرة القومية والدائرة العالمية، فعلى صعيد الحزب شكّلت الحركة تحوّلاً في قاعدة الحزب التنظيمية حيث اتسعت بشكل كبير لتضمّ عشرات الآلاف من المنتسبين بعد أن كان عدد المنتسبين عند قيام الحركة في 16 تشرين الثاني عام 1970 لا يزيد على خمسة آلاف عضو عامل وحوالي خمسين ألفاً من المؤيدين والأنصار، وارتفع العدد خلال السنوات العشر الأولى إلى أكثر من ثلاثمائة ألف منتسب، ما عزّز القاعدة التنظيمية بشكل كبير ووسّع من حيّز الحزب الاجتماعي وحضوره في المشهد المجتمعي، ويعود السبب في ذلك إلى أن استقرار قيادة الحزب وتجاوزها لحالة الصراع بين ما سمّي الأجنحة انعكس إيجابياً على الحالة الحزبية بشكل عام، بل تجاوز ذلك إلى المستوى القومي بتفاعله مع المركز في دمشق، وإلى جانب ذلك حدث تحوّل كبير في إطار قراءة أفكار الحزب وأيديولوجيته وأدبياته ومنطلقاته الفكرية، حيث تحرّر من حالة الجمود العقائدي والقراءة الصلبة لمنطلقاته الفكرية عبر محاولات بعض منظريه (مركسته) تأثراً بما كانت عليه أجواء الحركة الاشتراكية العالمية التي يقودها الحزب الشيوعي السوفييتي آنذاك، وهو الخط والنهج الذي أطلق عليه العقلية المناورة المتسلطة بسعيها إلى الخروج عن روح دستور الحزب وأدبياته الفكرية ومنطلقه القومي الاشتراكي كطريق عربي للاشتراكية، وهنا تكون الحركة التصحيحية قد أعادت الحزب إلى سكته الصحيحة وحالت دون انحرافه عن محدّدات نهجه الأساسي القائم على الوحدة العربية والحرية والاشتراكية وفق رؤية البعث، ما مكّن الحزب من الاستمرار لأنه أنجز وانفتح واستجاب للتطورات دون أن يتخلى عن مبادئه أو ثوابته.
وإلى جانب ذلك انفتح الحزب على القوى السياسية التقدمية في سورية تطبيقاً لشعار لقاء القوى التقدمية فكان قيام الجبهة الوطنية التقدمية عام 1972 لتكون الإطار الواسع لمشترك سياسي وطني يشكّل رافعة العمل الوطني والنواة الصلبة لوحدة وطنية قائمة على الشراكة الفعلية في قيادة البلاد وتكريس شعار التعدّدية السياسية بشكل حقيقي، ما رفد الحوض السياسي بروافد جديدة أغنت الحياة الديمقراطية في البلاد، وإلى جانب التعددية السياسية كانت التعددية الاقتصادية التي شكّلت داعماً قوياً للاقتصاد الوطني الذي كان يساند بشكل أساسي القطاع العام ما منح ديناميكية جديدة لعملية التنمية الشاملة التي شهدتها البلاد وانعكست بشكل كبير على الناتج المحلي الإجمالي وحياة المواطنين المعيشية.
وعلى الصعيد القومي العربي كان للحركة التصحيحية الدور الفاعل في تصحيح العلاقة مع الدول العربية وإخراج سورية من حالة القطيعة التي كانت تعيشها، حيث اتبعت القيادة السورية سياسة الانفتاح على الدول العربية ولاسيما مصر ودول الخليج العربي، ما خلق بيئة عربية أفضل لتضامن عربي كان الأساس في قيام حرب تشرين التحريرية عام 1973، فلولا التنسيق السياسي والعسكري مع مصر وقيام اتحاد الجمهوريات العربية عام 1971 ما كان للحرب أن تقوم بتلك الصورة وذلك التنسيق بين الجيشين العربي السوري والمصري، وهذا ما أشار إليه الرئيس المؤسس حافظ الأسد في كلمته التاريخية أمام المؤتمر القومي الثاني عشر لحزب البعث العربي الاشتراكي المنعقد في دمشق صيف عام 1975.
وإذا كان لنا أن نستبصر في تاريخ الحركة مستحضرين الظروف التي كانت تعيشها الأمة العربية والمنطقة على وجه العموم في سياقها الزمني، فإننا نلحظ أن الأوضاع العربية كانت في غاية السوء حيث آثار عدوان حزيران، ووفاة عبد التاصر وما شكّلته من خسارة للتيار القومي وأحداث أيلول الأسود وضرب المقاومة ومحاولة تصفيتها وصراعات بينية عربية على خلفية حرب اليمن، وما إلى ذلك من انعكاسات سلبية على المزاج الشعبي العربي وما اعتراه من إحباط بفعل تلك الظروف، ونرى في الحركة التصحيحية الحامل لروح عربية جديدة ملأت الفراغ الذي تركه رحيل الرئيس جمال عبد الناصر، ووقوداً معنوياً غذى نفوس القوميين العرب وحركة التحرر العربية والمقاومة الفلسطينية التي تعرّضت لضربة قاسية على خلفية أحداث أيلول الأسود، الأمر الذي وفر بيئة إيجابية لاستعادة حالة الأمل لدى الجمهور العربي الذي سعى الصهاينة وعملاؤهم من رجعيين وخونة إلى إدخاله في مربع اليأس والخوف والتردّد لجهة خلق بيئة تفسح المجال لقبول الاشتراكات الصهيونية والغربية لفرض شروط استسلام على العرب والاستثمار في المكاسب العسكرية التي حققها الصهاينة في حرب أو نكسة حزيران عام 1967.
لقد وضعت الحركة التصحيحية سورية في مكانها الطبيعي والقيادي بين العرب ودول العالم انطلاقاً واستثماراً في موقعها الجيواستراتيجي والجيوسياسي الذي وضعه القائد المؤسس حافظ الأسد الذي زاوج بشكل مثير بين المبدئية والبراغماتية، وشكّلت قيادته حالة فارقة في تاريخ الساسة والسياسة ووضع سورية الموقع والموقف والمكانة، حيث يجب أن يحسب الجميع حسابها وهي تتحالف مع الكبار دون أن يضعها أحدٌ في جيبه، وكانت وما زالت في ظل قيادة السيد الرئيس بشار الأسد العنوان للقرار الوطني المستقل على الرغم من تغيّر كل الظروف ومعطيات القوة، ولكن الإرادة الوطنية لم تضعف بل زادت قوة ومتانة وإصراراً وتمسّكاً بالنهج الذي أرساه القائد المؤسس حافظ الأسد، وأصبح في ثقافة وأبجدية السوريين السياسية بل علامة فارقة تتحدّث بكل قوة واعتزاز وفخر عن زمن هو الزمن السوري.