أدب الموت بين العبثية والواقع
يصطدم الإنسان منذ نعومة أظفاره بتصورات يصعب تفسير مضامينها، فيقف حائراً أمام مئات الأسئلة الوجودية بشقيها المعروفين، وبمرور الوقت، يكوّن موقفاً مسبقاً مقيداً ببعض العادات والأقوال، دون أن يتعدى هذا الفهم الحدود الذهنية المرسومة سلفاً، فيتيقن بعدئذ أنه حتمي ولا يمكن العودة منه، ويبقى عالم “الغيب” هذا أكبر لغز يلاقيه.
ومنذ الأزل تناول الأدباء والشعراء فكرة الغيب والموت والبعث ضمن تلميحات وانزياح في الصور والتوصيف، فهذا الشاعر الكبير بدر شاكر السياب الذي افترش الموت ذهنه في أحيان كثيرة، كان في نظره عالماً غامضاً أكثر من “وحش” يقتحم الأحلام وينكد العيش، فيقول:
فالموت عالم غريب يفتن الصغارْ وبابه الخفي كان فيك يا بويبْ.
ومن أشهر ما قيل في الموت عند العرب بيت أبدعه الشاعر أبو ذؤيب الهذلي، وبيّن فيه الخوف الذي يعتري الإنسان، والشعراء بشكل خاص، عند التفكير بالموت، والنزعة للهروب منه:
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع.
ومن نافلة القول أن موضوع الموت لم يقتصر على الشعراء، إذ كانت له حصة ليست صغيرة في كل لون من ألوان الأدب والفنون، وكل كان يتناول الفكرة من باب مختلف، علّه يحلّ عقدها وأقفالها، أو أقلّها أن يُبسّطها فيَسهل استيعابها، وربما تقبّلها.
انقسم أدباء العالم في مدى تجاوبهم مع هذا الهاجس، وطريقة تعاملهم معه، وهذا أدى إلى نشوء مفاهيم واسعة، بينها “عبثية” ألبير كامو، إذ تقول الكاتبة الأردنية سهى الدهامشة: إن أدب كامو كان يعتمد فلسفة خاصة في النظر إلى ثنائية الحياة والموت، ففي فلسفته العدمية التي تعدّ الإنسان جاء من العدم ويعود إليه، يؤمن كامو بالموت شيئاً حتمياً، لكنه لا يعتقد بما قبله أو ما بعده من أحداث.
اتخذت الدهامشة من شخصيتي مارسو وباتريس في روايتي “الغريب” و”الموت السعيد” مثالين على فلسفة كامو، فهذا مارسو اللامنتمي فقير المشاعر والأحاسيس، يتلقّى في مطلع الرواية نبأ وفاة أمه، فلا يبدي أدنى اكتراث بالخبر، ولا فرق لديه إن ماتت اليوم أو أمس.
أما باتريس اللامنتمي أيضاً، فتقول الدهامشة: إن كامو يُصوّر فيه رحلة البحث العبثية عن السعادة قبل الموت، ولكن “لا يجد هذه السعادة بعد أن بدأ بحثه عنها بجريمة قتل، ولا هو امتلكها حين امتلك المال والعائلة كما اعتقد”، وإنما يجدها عند موته، حتى إنه أطلق على موته اسم: الموت السعيد، أو “الواعي”.
وبالانتقال إلى واحد من أعلام الأدب الأمريكي، نجد أن مواجهة الموت بشجاعة أحد أكثر الموضوعات حضوراً في أدب همنغواي، لكن هذه الفكرة لم تطغ في قصة “يوم من الانتظار”، فالجندي على الجبهة، والمحارب القديم الذي يصارع جراحه النفسية، والملاكم الذي تطارده العصابات الإجرامية، ومصارع الثيران الذي يتحدّى ثوراً أمامه، لم يواجه أي منهم الموت بشجاعة، باستثناء “صبي بائس سقيم له من العمر تسع سنين”، وعلى الرغم من حداثة سنه، نرى الصبي المريض مقتنعاً بحتمية موته، إذ قال له مدرّسوه: إن حرارة الجسم إن تعدّت أربعاً وأربعين درجة تكون قاتلة، وهو يقرأ على ميزان الحرارة الرقم 102، دون أن يدرك الفرق بين وحدتي سيليزيوس وفهرنهايت، ويظل الصغير يرتقب موته طوال اليوم (من هنا جاء عنوان القصة).
ربما يصعب علينا تصديق أن صبياً بهذا العمر يواجه الموت بشجاعة بالغة، حتى إنه يطلب من أبيه مغادرة الغرفة كي لا يشهد موته، ليعود فيما بعد إلى طفولته البريئة حين يعلم أنه لا يحتضر، لكن القصة تدور حول فكرة الحياة والموت، والخيط الرفيع الفاصل بينهما، وفي لحظة قد يتراءى لنا أنهما يتماهيان معاً ليصبحا وجهين لعملة واحدة.
وبالذهاب شرقاً، نتعرّف على أحد عمالقة الأدب الروسي البارزين الذي كانت ثنائية الحياة والموت حاضرة بقوة في أدبه، إذ تناولها المبدع الروسي إيفان بونين من نواح مختلفة، بيد أنه اصطدم في كل مرة بالنتيجة نفسها، الموت والحياة نقيضان مترابطان لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، لكن بونين كان يربط الموت بالحب، إذ كانا أحب موضوعين إلى قلبه، ونراهما يطغيان على أعماله حتى ينصهرا ليشكّلا مزيجاً لا يمكن فصله، ذلك أن الحب في رأيه مبارك وتراجيدي في الوقت نفسه، أو بكلمات الشاعر الروسي ألكسندر تفاردوفسكي: “ربما كان الحب (في نظر بونين) التعويض الوحيد عن كل نواقص الحياة وعيوبها وأكاذيبها ومحنها، لكن الأهم أنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بالموت لأنه قصير المدة وسريع الزوال”.
ففي إحدى قصص “بونين” الواقعية الإشكالية يأخذنا إلى مقولات الوجود، وأن موضوع الموت يتقاطع مع موضوع الحب في مراحل مفصلية مهمة، ويعمل عمل قوة خارجية تنذرنا بالعواقب المأسوية، وتؤكد تلك القصص أن الموت هو هادم اللذات، ومفرق الجماعات، وتضعنا- أي القصص- على سطور البحث في قراءة تلك الإشكاليات، وبعض الاختلاف بين الناس.
ربما اقتنع بعض الأدباء بالحقيقة الكلية عن عالم الغموض، أو الحقيقة الكاملة الموجودة في عقل الإنسان، فهل نعرف شيئاً عن الحياة حتى نبحث في أمور تأخذنا إلى سراديب البحث غير المجدي؟.
علاء العطار