جيل التصحيح وجيل التكنولوجيا الرقمية
د. عبد اللطيف عمران
في هذه الأيام العصيّة على التصنيف – لأسباب واضحة فكريّاً واجتماعيّاً – يقف الكاتب وهو يكتب حائراً أمام خيارين: خيار الماضي القريب، أم خيار الواقع الراهن، ذلك جرّاء نقلة مفاجئة في الحياة العامّة العالميّة أولاً: (تقدّم) معطيات ثورة المعرفة والاتصالات، وفي الحياة العامّة العربيّة ثانياً: (تخلّف) الوعي وزعزعة الهويّة الوطنيّة والعروبيّة ونمو التطرف والتكفير والإرهاب.
نحن اليوم، أمام أجيال مواليد 2000م وما بعد، وهي تسير نحو التخرّج في حياتها الأكاديميّة والانخراط في الحياة العامة وقد أرهقها العدوان على الحاضر والمستقبل، وعلى منجزات عصر النهضة واليقظة العربيّة ومنجزات حركة التحرّر الوطني العربيّة والعالميّة.
هذه الأجيال تفرّ من الحياة الأرشيفيّة ومن حديث الذكريات وشجونه ، وتكاد تنأى بنفسها عن التغنّي بأمجاد الماضي، ذلك بسبب وطأة الواقع الذي تعيش من جهة، ومن جهة ثانية بسبب ما تفرضه عليها معطيات الحياة الرقمية، والواقع الافتراضي: Virtual Reality من ذاكرة سريعة واهتمامات عابرة ومؤقتة، هذه المعطيات يستثمرها سوية اليوم التقدّمي والتكفيري.
هنا يجب أن نكون على يقين من أن جيل الألفيّة الثالثة جيل عولمي يعيش هذه الحياة وهذا الواقع سويّة، سواء أكان أبناؤه في دمشق أم تونس أم الرياض أم نيويورك أم لندن أم طوكيو… إلخ، وكذلك أطفاله بعد الثانية من العمر يتابعون سوية وبلغاتهم المتعددة على النت CoComelon، ما يجعل هذه الأجيال أمام أمواج من العصف الذهني حول سؤال المصير والهويّة والوعي والانتماء، ويضعها في مواجهة خيارات صعبة تتطلب الإجابة عنها الإسعاف من مؤسسات وطنيّة تكنوقراطيّة مختصّة ورؤيوية.
في هذا السياق، أتى أمس احتفال جماهير شعبنا وحزبنا حزب البعث العربي الاشتراكي ومؤسّساته بالذكرى الحادية والخمسين للحركة التصحيحيّة المجيدة بقيادة القائد المؤسّس حافظ الأسد في 16 ت2 1970، احتفال ينطوي في غير قليل من جوانبه على تقليد، وإحياء، وذكرى، وأرشيف، في إطار وطني تقدّمي أصيل معطاء وحافز، لكن في أوساط تتباين فيها مستويات التلقي والتأثير ما يتطلّب الحاجة إلى مهنيّة وحرفيّة وافتنان في الخطاب أمام المستهدفين من الخطاب (الجيل الجديد)، أي عرض الماضي المجيد بنكهة جديدة تحفّز على طرد مشاعر اليأس والإحباط، وتعزز الأمل والثقة، وتجدد الدوافع.
هذه النكهة الجديدة في الخطاب تشبه إلى حد ما، ما كنا يسمّيه بعضنا أيام (الفتوّة): الوعي المطابق، حيث أن الإيديولوجيا تتقادم مع الزمن، كما أن تغيّر معطيات الحياة يستلزم مزيداً من العقلانية والواقعية والتجديد بعيداً عن الحداثة الزائفة،.. هذا ما دفع بالأمس أحد قياديي البعث في ندوة على مدرج دار البعث إلى القول بأن: واجبنا يتطلّب أن نوفّق بين استثمار التكنولوجيا الرقمية، وتعزيز الصور والإحالات الموحية للرموز الوطنيّة الأصيلة، بغض النظر عن البرم بحديث التقليد والذكريات والأرشيف…
نعم في الأصالة والمعاصرة لا يوجد قديم وجديد إلّا على محور الزمن، أما على محور القيم فهما واحد، ففي الحزب العقائدي لا تتهالك القيم، ولا تتقادم المبادىء والثوابت، في العقائد والتقاليد والحقوق والواجبات هناك مبادىء وثوابت تبقى أصيلة، وهذا ما نجده وطيد الحضور مثلاً في أحاديث الرفيق الأمين العام للحزب السيد الرئيس بشار الأسد تحت عنوانات: الوطن والوطنيّة، العروبة والإسلام، العلمانيّة والدين، اللغة والهويّة، الوعي والانتماء… إلخ، ما يؤكد أن التصحيح كان ولايزال نهجاً مستمرّاً، وموقفاً من الواقع والحياة العامة أكثر مما هو لحظة تاريخية (على أهميّتها وضرورتها).
نعم: كان التصحيح ولا يزال نهجاً، وعلينا أن نتقن تجديد درسه وتدريسه وإحياءه في الكتب والمنابر العديدة، والمؤسسات ذات الصلة، لكن بوعي مطابق للواقع المتغيّر، فالتصحيح عام 1970 لم يكن فقط في الحزب والسلطة، بل كان قبل ذلك في الثقافة والسّياسة والاقتصاد والمجتمع..، في الوطنيّة والعروبيّة، في العلاقات والمفهومات للواقع المحلي والعربي والدولي..، كان في الذهنيّة الجمعيّة أيضاً… ولاسيّما حين وافق بين آثار النشآت الثلاث المتتالية للبعث: طليعة- عمال وفلاحون- اللجنة العسكرية، فكان (عودة الحزب إلى جماهيره وعودة الجماهير إلى حزبها): عنوان بيان القيادة القطريّة المؤقتة يومها.
والتصحيح اليوم، هو هذا الصمود الأسطوري، والتضحيات الجسام، والحكمة والشجاعة، وهو بالمقابل ما يدفع الآن الآخر من أشقاء وغيرهم إلى تصحيح الموقف العربي والدولي من الحرب على سورية، ومن العدوان على شعبها وجيشها وقيادتها، على قيمها ومبادئها وحقوقها، إلى اعترافات متتالية بأنهم كانوا على خطأ، وبأنهم ارتكبوا جرائمَ… وانتصر الأسد لأنّه على حق.
التصحيح اليوم، هو هذا الصمود المعجز الذي يتجاوز هذه المعضلة الكبيرة، ويلغي المسافة بين النظريّة والتطبيق، فهل بإمكاننا أن نبرع في إعداد أجيال الغد للمضي في هذه الراية، فيستعصمون أمام براثن الفتنة والتطرف والتكفير، ليرسّخوا الوحدة الوطنية، ويعزّزوا عملية البناء والإعمار المعنويّة والماديّة.