الكيان الإسرائيلي يحول الدين اليهودي إلى ذراع أيديولوجية للصهيونية
البعث الأسبوعية- سمر سامي السمارة
من المسلم به، حتى قبل إعلان وعد بلفور في عام 1917، أن الخطر متأصل في تبني الأيديولوجية الصهيونية لما يسمى “دولة الكيان”.
في 19 تشرين الأول الماضي، صنفت وزارة الحرب “الإسرائيلية” رسمياً، ستة مؤسسات حقوقية فلسطينية معروفة، على أنها “منظمات إرهابية”، حيث تستخدم ما يسمى “إسرائيل” تعريفاً فضفاضاً “للإرهاب” بشكل غير معقول، وتعتبر أي انتقاد وأي مقاومة سلمية لنظام الفصل العنصري “إرهاباً”. وهذه المنظمات الستة التي طالها هذا التصنيف الجائر، هي الضمير لرعاية الأسير وحقوق الإنسان، ومؤسسة الحق، والحركة العالمية للدفاع عن أطفال فلسطين، واتحاد لجان العمل الزراعي، ومركز بيسان للبحوث والإنماء، واتحاد لجان المرأة الفلسطينية.
من خلال تصنيف” الكيان الإسرائيلي” لجمعيات حقوق الإنسان الفلسطينية على أنها “إرهابية”، تسمح لسلطات “الاحتلال” بترويع المجموعات التي يدرك الجميع أن لا علاقة لها بالإرهاب. كما أن وصمة “الإرهاب” التي صنفتها السلطات “الإسرائيلية” يسمح للأخيرة بإغلاق مكاتب هذه المنظمات، ومصادرة أصولها، واعتقال وسجن موظفيها، كما يحظر عليها التمويل أو حتى التعبير علناً عن دعم أنشطتها.
يرى محللون، أن نوعين فقط من الأشخاص يمكن أن ينخدعوا بهذا التصنيف، وهم بالطبع، المتأثرون في الفكر الصهيوني الجماعي الذين يؤمنون إن عالم “إسرائيل المتفوق”، بالإضافة إلى السياسيين والبيروقراطيين المرتبطين بشدة مالياً باللوبيات الصهيونية، لدرجة تجعلهم يتخلون عن أي منطق والموافقة على كل ما تدعيه الصهيونية، وهذا الجزء الكبير تحديداً يمثله جزء لا يستهان به من هيكل النخبة بمختلف مجالاتها في أميركا.
في المقابل، وبخلاف هاتين الفئتين، أدان أصحاب الفكر المستقل الإجراءات الإسرائيلية المجحفة بحق الفلسطينيين، فقد وصف موقع “+972″ ذو التوجه الصهيوني، الذي حصل على نسخ من الشهادات السرية التي تقدم “أدلة” ضد المجموعات الستة، والمتضمن أن الاتهامات غير مثبتة، وبأنها مجرد “هجوم سياسي تحت غطاء أمني”. ورأى الموقع أن القضية بأكملها عبارة عن خليط من التلميحات والافتراضات، بعضها حصل عليه جهاز الأمن الإسرائيلي “الشاباك” من خلال تهديد الشهود وعوائلهم.
كما أدانت منظمتي “هيومن رايتس ووتش” والعفو الدولية، اللتان تتعاملان منذ فترة طويلة مع العديد من المنظمات الفلسطينية المتهمة، السلوك الإسرائيلي بعبارات قاسية مؤكدة بالقول: ” هذا القرار المروع وغير العادل هو اعتداء من الحكومة الإسرائيلية على الحركة الدولية لحقوق الإنسان، حيث تسعى السلطات الإسرائيلية منذ عقود بشكل منهجي إلى تكميم أفواه مراقبي حقوق الإنسان ومعاقبة المنتقدين لسلوكها القمعي بحق الفلسطينيين. … وبالمقابل يتحمل المدافعون الفلسطينيون وغير الفلسطينيين عن حقوق الإنسان دائماً العبء الأكبر من القمع ويتهمون بأنهم لا ساميين. … إن فشل المجتمع الدولي على مدى عقود في تحدي الانتهاكات الإسرائيلية الجسيمة لحقوق الإنسان وفرض عواقب عليها، شجع السلطات الإسرائيلية على التصرف بهذه الطريقة الوقحة “.
وحتى عدد من الصحف الصهيونية- ضمن البازار السياسي- رأت إن تصنيف الحكومة لمنظمات المجتمع المدني في الضفة الغربية كمنظمات إرهابية هو نوع من حماقة مدمرة للذات، وإن تحريم جماعات حقوق الإنسان واضطهاد الناشطين في المجال الإنساني هي سمات جوهرية للأنظمة العنصرية.
إلى جانب اضطهادها المعتاد والسادي للفلسطينيين، كان لدى الكيان الإسرائيلي أسباب فورية لإسكات هذه المنظمات الستة، وبحسب تحليل مؤسسة” أوبن ديموقراسي” نشر بعد القرار الصهيوني، إن الدائرة التمهيدية في المحكمة الجنائية الدولية تتمتع بصلاحيات تناول الأحداث التي تقع في الأراضي الفلسطينية المحتلة, وبناءً عليه فتحت المحكمة تحقيقاً جنائياً حول الممارسات والسياسات الإسرائيلية في هذا المجال.
وأوضح موقع” أوبن ديموقراسي” قائلاً: “على مدى عقود، تنخرط المنظمات الستة التي حظرت وأغلقت بشكل نهائي، في توثيق ورصد الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان وجرائم الحرب والفصل العنصري ضمن الأرض الفلسطينية المحتلة… كانت كل تلك الممارسات أساساً، للمطالبة بالأدلة لفتح تحقيقات جنائية من قبل المحكمة الجنائية الدولية “.
ما يقصد به موقع” أوبن ديموقراسي” بعبارة أخرى، أن الصهاينة يسعون من خلال تغيب الدورين الإنساني والجنائي، التملص من أي شكل من أشكال المسؤولية المترتبة من إدانتهم في جنايات الحرب الدولية ولشرعنة ممارساتهم العنصرية بحق الفلسطينيين، وفي هذه الحالة تطال عرقلة العدالة المجتمع الدولي. وهم بذلك يقوضون معايير الأخلاق والقيم المشتركة بين المجتمعات المكرسة في القانون الدولي. أي أنهم، الصهاينة، يرون أن القانون الدولي يمثل عقبة أمام هدفهم الأيديولوجي المتمثل في التوسع القومي والتفوق اليهودي، أي النسخة الصهيونية من اليهودية.
أيديولوجيا الدولة الصهيونية
لا شيء من كل ما ذكرناه بجديد، فطالما تصرف الصهاينة بدافع من الشوفونية الاستيطانية المتمحورة حول العرق على هذا النحو، وقد أصبح من المسلمات إن هذا الإرث الفكري والبنيوي كرسته الصهيونية. وهو ما يفسر الهجرات الأولى منذ عام 1881 وكذلك ارتكاب الجرائم من قبل العصابات اليهودية حينها لتصفية أكبر عدد من الفلسطينيين وبما يسهل تنفيذ هذا المخطط الصهيوني بدعم ورعاية من الانتداب البريطاني الذي شرعن هذه الممارسات اللا إنسانية قبل صدور وعد بلفور1917.
وفيما يلي بعض التحذيرات المبكرة المرتبطة بأيديولوجية الدولة الصهيونية, فقد كتب أبرز دعاة الصهيونية، أشر غينزبرغ المشهور بإسم “آحاد هاعام”، أن لدى المستوطنين الصهاينة في فلسطين “ميلاً للاستبداد، حيث يعاملون الفلسطينيين بالعداء والقسوة، ويحرمونهم من حقوقهم، ويسيئون إليهم بلا سبب، بل ويتفاخرون بهذه الأعمال “. وحذر من أن مثل هذا السلوك ناجم عن التوجه السياسي للحركة الصهيونية والذي لن يؤدي إلا إلى “إفساد أخلاقي” لليهود.
ومع اقتراب صدور وعد بلفور، أعرب يهود آخرون عن قلقهم، ففي الولايات المتحدة، أرسل الناشط اليهودي وأحد مؤسسي الجمعية الوطنية لتقدم الملونين “هنري زموسكوفيت في العاشر من حزيران 1917 ” خطاباً -مثل المعارضة- إلى صحيفة “نيويورك تايمز” كتب فيه: “تتمثل المخاطر الأخلاقية الكبيرة في هذه النظرة القومية من منظور الروح اليهودية بشكل أساسي، بأنها تميل لإيجاد المزيد من الأنانية العرقية “.
كما وصفت المنظرة السياسية والباحثة اليهودية من أصل ألماني- والتي تصنف ضمن الفلاسفة المعاصرين- “حنا آرندت” في مقال كتبته عام 1945، الحركة الصهيونية بأنها “قومية مستوحاة من ألمانيا، أي هي أيديولوجية ترى القومية كجسم عضوي أبدي، نتاج نمو طبيعي حتمي لصفات متأصلة، وتُظهر الأشخاص، ليس من منظور المنظمات السياسية، ولكن بحسب الشخصيات البيولوجية الخارقة.
في عام 1948، كتبت “آرندت” و 27 يهودياً بارزاً يعيشون في الولايات المتحدة – بما في ذلك ألبرت أينشتاين – رسالة إلى صحيفة “نيويورك تايمز” تدين تزايد تنامي التطرف السياسي المنظم في “إسرائيل”، مستشهدين بتحول منظمة “أرغوان” الإرهابية إلى ما يسمى “حزب الحرية” الذي أسسه “مناحيم بيغن” وغيرها من المنظمات الإرهابية مثل الهاغانا والماباخ، والذي أصبح فيما بعد رؤساؤها وزراء الكيان الإسرائيلي، وهي أحزاب بطبيعتها قريبة جداً في تنظيمها وأساليبها وفلسفتها السياسية وجاذبيتها الاجتماعية من الأحزاب النازية والفاشية، فالليكود الإسرائيلي على _سبيل المثال لا الحصر_ هو خليفة لحزب “حيروت”.
لا تترك الاستنتاجات التي توصلت إليها كل منظمة حقوقية قامت بفحص السلوك الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين على مدار السبعين عاماً الماضية، بما في ذلك منظمة العفو الدولية، وهيومن رايتس ووتش، ومنظمة حقوق الإنسان الفلسطينية، مجالاً للشك في أن الصهاينة فشلوا في اختبار أينشتاين، لذلك إن أي تذكير بفشل الحركة في شكل انتقادات وتوثيق معاصر لا يتم إنكاره فحسب، بل يتم إدانته على أنه معاد للسامية.
اللافت، تجاهل وسائل الإعلام الأمريكية، التي لا تزال ملتزمة بأسطورة “إسرائيل كدولة ديمقراطية حديثة وعلمانية” تشترك مع الولايات المتحدة في تقاليدها، حيث قللت من شأن منتقدي الصهيونية، الأمر الذي ترك الغالبية في الغرب في حالة جهل لسياسات وممارسات الكيان الإسرائيلي الفعلية.
اليوم أصبحت اليهودية على أعتاب الانهيار الأخلاقي، وقد تمثلت آلية هذا الانهيار في تحويل الدين إلى ذراع أيديولوجية للدولة الصهيونية الإسرائيلية. و ببساطة، كان آحاد هاعام، وهنري موسكوفيتز، وحنا أرندت، وألبرت أينشتاين، وجوناثان ساكس، محقين في انتقادهم للصهيونية.