منظمة التجارة العالمية… أداة في يد الأحادية القطبية
البعث الأسبوعية – عناية ناصر
احتفلت منظمة التجارة العالمية مؤخراً، بالذكرى العشرين لدخول الصين في نظام التجارة العالمي. هذا الاحتفال برمزيته لابد أن يكون درساً لطي صفحة تهديد الأحادية، وأن لا تكون منظمة التجارة العالمية ذراع لمجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى، بل يجب أن تصبح أكثر شمولية ومتعددة الأطراف.
في حقبة ما بعد الحرب الباردة، حققت منظمة التجارة العالمية (WTO) انخفاضاً كبيراً في الحواجز التجارية مما أدى إلى توسيع التجارة وتسهيل الاحتكاكات التجارية، إلا أنها فشلت في التفاوض بشأن تحرير التجارة الرئيسية منذ عام 1994، ولا تزال مقيدة بزيادة الاستقطاب بين البلدان المتقدمة والنامية.
وحتى وقت قريب، كانت الاقتصادات الغنية تسيطر على الآفاق الاقتصادية العالمية، والتي أصبحت اليوم مدفوعة بشكل متزايد من قبل الاقتصادات النامية الكبيرة، ما يعني بالضرورة أن الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب يحتاج إلى منظمة تجارة عالمية أكثر شمولاً ومتعددة الأطراف.
من المحادثات إلى الخلافات
تأسست منظمة التجارة العالمية عام 1995، وحلت المنظمة الدولية المكونة من 164 عضوا ًمحل الاتفاقية العامة للتعريفات الجمركية والتجارة (الغات)، التي تم إنشاؤها في عام 1948. واليوم، فإن المهمة المنوطة بمنظمة التجارة العالمية هي الإشراف على قواعد التجارة العالمية وحل النزاعات التجارية. انطلقت الجولة الأخيرة من المفاوضات التجارية متعددة الأطراف في عام 2001 لكنها انتهت إلى طريق مسدود، كما تعقدت المحادثات بسبب الخلافات المستمرة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول النامية حول القضايا الرئيسية، مثل الزراعة والتعريفات الصناعية والحواجز غير الجمركية والخدمات والعلاجات التجارية. هذا الخلاف مهد الطريق لصعود الاقتصادات النامية الكبرى التي ترفد الاقتصاد العالمي بشكل متزايد، مما دفعها للمطالبة بصوت يتناسب مع حجم إسهاماتها الاقتصادية، إلا أن الاقتصادات الغنية تصر على امتيازاتها السابقة، وهنا مكمن الخلافات، فقد انقلب الموقف التجاري للولايات المتحدة، مهندس نظام الغات/ منظمة التجارة العالمية، رأساً على عقب، حين اعتقد صقور ترامب في الحرب التجارية، على عكس الإدارات الأمريكية السابقة، أن منظمة التجارة العالمية لم تضف “قيمة” للاقتصاد الأمريكي، وفضلوا الضغط الثنائي على التعددية والقواعد الدولية. واليوم تفضل إدارة بايدن استخدام الخطاب متعدد الأطراف للأولوية التجارية الأحادية، لكن المحصلة النهائية ظلت كما هي، وبالتالي استمرار الركود في التجارة العالمية.
المعايير المزدوجة في الغرب
عندما انتهت صلاحية البند الرئيسي لموافقة انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في 11 كانون الأول 2016 ، كان من المفترض أن يقر الرئيس أوباما والاتحاد الأوروبي واليابان الصين وضع اقتصاد السوق((MES، لكنهم رفضوا القيام بذلك، و استمر موقف ترامب و بايدن في البناء على هذا الرفض.
وحتى عندما انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، تم وضع الشروط بشكل مكتوب في الاتفاقية التي تنص على أن الدول الأعضاء يمكن أن تعامل الصين على أنها “اقتصاد غير سوقي”. ونظراً لحجم الاقتصاد الصيني، والتدخل الحكومي، والشركات المملوكة للدولة، جادلت الاقتصادات الغربية الغنية بأنه يجب تجاهل مقارنات الأسعار المحلية الصينية، ويجب استخدام “القيم المنشأة” للحصول على “صورة حقيقية” للاقتصاد الصيني.
في عام 2001، بلغ الناتج المحلي الإجمالي الصيني 1.3 تريليون دولار (12 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة)، بينما يبلغ اليوم حوالي 16.9 تريليون دولار (74 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة)، وذلك بفضل الإصلاحات وسياسات الانفتاح. ومع ذلك، لا تزال الصين تُعامل كما كانت قبل عقدين، كذريعة لرسوم مكافحة الإغراق الثقيلة.
ما الذي كان سيحدث لو تم تطبيق هذه المعايير المزدوجة على الاقتصادات الغنية عندما كانت في طريقها للتصنيع؟. في أمريكا القرن التاسع عشر، كانت التعريفات من بين أعلى المعدلات في العالم، وكانت حماية الصناعة الوليدة هي القاعدة. ورأت واشنطن حينها أن التصنيع في الولايات المتحدة أمر بالغ الأهمية لسيادة الولايات المتحدة، وعليه سادت ممارسات مماثلة في أوروبا الغربية، و الشيء ذاته ينطبق على اليابان في مطلع القرن العشرين.
الاختبار الحقيقي للتجارة العالمية
لو كانت منظمة التجارة العالمية موجودة في ذلك الوقت وكانت هذه الاقتصادات ملتزمة تماماً بقواعدها، لكانت الإمبراطورية البريطانية قد استولت على معظم الأسواق في أوروبا وشرق آسيا. وهذا هو بالضبط سبب لجوء الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا واليابان وغيرها من الاقتصادات الكبرى إلى التعريفات الجمركية والحماية في المراحل الأولى من تصنيعها.
في المقابل، لو تعرضت الاقتصادات الناشئة الكبيرة ، بقيادة الصين ، والاقتصادات النامية الكبرى، بقيادة الهند، للمعايير المزدوجة في الغرب عالي الدخل، لكان التأثير الصافي دمر أسواقها وصناعاتها الناشئة، وقوض نمو اللحاق بالركب، وهو أمر حيوي لرفع مستويات المعيشة. لكن على عكس القوى الغربية وسط التصنيع، بذلت الصين جهوداً نشطة منذ عام 2001 لتتماشى مع قواعد منظمة التجارة العالمية، وفتح أسواقها والالتزام بقواعد منظمة التجارة العالمية، كما أشار نائب وزير التجارة وانغ شووين مؤخراً. وفي الوقت نفسه، انخفض مستوى التعريفة الجمركية في الصين إلى النصف إلى 7.4 في المائة، وهو أقل من مستوى الدول النامية الأعضاء في منظمة التجارة العالمية وقريب من نظرائها المتقدمين. لذلك فإن الصين ليست الاختبار الحقيقي لمنظمة التجارة العالمية أو التجارة العالمية، بل الأحادية التجارية.
خطر الأحادية التجارية
في الآونة الأخيرة، تعرضت منظمة التجارة العالمية للتوتر بسبب التعريفات الأمريكية ، والتعريفات المضادة من قبل البلدان الأخرى، وهناك العديد من نزاعات منظمة التجارة العالمية في انتظار قرارات تسوية تلك النزاعات. ففي إحدى النزاعات التي تتعلق بالتعريفات الأمريكية على الصين، حكمت اللجنة المختصة ضد الولايات المتحدة، وهو ما زاد من التوتر أكثر من ذي قبل.
وبحسب محللين اقتصاديين، يمكن للتعريفات الأحادية المتبعة باسم الأمن القومي أو الاقتصادي أن تحرف منظمة التجارة العالمية عن مصداقيتها ومبادئها التي تعزز القيود التجارية الجديدة. وعلى سبيل المثال، قامت إدارة ترامب بتضخيم هذه الضغوط، عندما منعت تعيينات في هيئة الاستئناف، التي تراجع الطعون في قضايا النزاع المتوقفة عن العمل منذ كانون الأول 2019. في حين اقترح الاتحاد الأوروبي وآخرون إصلاحات لمعالجة مخاوف الولايات المتحدة، إلا أنه تم رفضها قبل الولايات المتحدة.
لاحقاً، تعهدت إدارة بايدن بإعادة الانخراط في التعاون متعدد الأطراف، ومع ذلك ، فهي مترددة في إعادة ضبط سياسة ترامب التجارية، لأن العودة المحتملة لترامب أو الأحاديين الذين يشاطرونه الرأي إلى البيت الأبيض بحلول عام 2024 ستصعد المخاطر، وبالتالي تقويض النظام التجاري.
يشار إلى أن من بين أعضاء منظمة التجارة العالمية، كانت الولايات المتحدة صاحبة الشكوى في معظم قضايا النزاع منذ إنشاء النظام في عام 1995. وعادةً ما تكون الصين المستهدف الأكبر للشكاوى التي قدمتها الولايات المتحدة.
نحو تعددية تجارية شاملة
منذ عام 2017، أدت مبادئ “بلدي أولاً” إلى تقويض التجارة العالمية والاستثمار والهجرة، من هنا كان الانتعاش الاقتصاد العالمي نتيجة الاعتماد على الاقتصاد المعيب والقومية المضللة وكراهية الأجانب، ومثل هذه المفاهيم هي الطريق الأضمن لهذا النوع من الفظائع التي ساهمت في الحرب العالمية الثانية. في أوائل القرن الحادي والعشرين، عندما كانت البلدان النامية تغذي الآفاق الاقتصادية العالمية بشكل متزايد، كان ما يحتاجه الاقتصاد العالمي متعدد الأقطاب هو منظمة تجارة عالمية مكرسة لتعددية الأطراف الشاملة.